سلسلة النقد والتحقيق تفسير سورتي الجمعة والتغابن المجلد 3

اشارة

نام كتاب: سلسلة النقد والتحقيق

نويسنده: حسيني ميلاني، علي

موضوع: عقائد

زبان: عربي

تعداد جلد: 3

ناشر: الحقائق

مكان چاپ: قم

كلمة المركز … ص: 5

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علي محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فقد قرّر المركز تشكيل لجنةٍ تقوم- بإشراف وتوجيه من سيّدنا الفقيه المحقّق آية اللَّه السيد علي الميلاني- دام ظلّه- بنقد بعض البحوث المنتشرة من المعاصرين وتحقيق بعض الكتب التراثيّة الصغيرة في الحجم والكبيرة في الفائدة، في مختلف العلوم والمسائل الاسلاميّة، وإخراجها في سلسلة تحت عنوان (سلسلة النقد والتحقيق) خدمةً للعلم والدين، وإحقاقاً للحق المبين، وإحياءً لآثار العلماء المحقّقين، وتوفيراً للمصادر النافعة للباحثين، سائلين المولي الكريم المفضال أن يتقبّل منّا هذا العمل وسائر الأعمال.

مركز الحقائق الإسلامية

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 7

كلمة لجنة النقد والتحقيق … ص: 7

هذا هو العدد الثالث من (سلسلة النقد والتحقيق) ارتأينا نشره بمراجعة مصادره المعتمدة في المتن والهوامش، وتصحيحه وتنظيمه من جديد.

وإنما وقع اختيارنا علي هذا الكتاب لامور:

الأول: إنه تفسيرٌ للقرآن الكريم، فإنه وإنْ كان تفسيراً لسورتين فقط، لكنّه علي صغره في الحجم فيه البحث ولو بإيجاز أو الاشارة إلي قضايا مهمّة في الدين في اصوله وفروعه.

الثاني: كونه من إفادات فقيه من كبار فقهاء الطّائفة وأحد المراجع العظام … في محاضرات ألقاها علي ثلّةٍ من الأفاضل من الحوزة العلمية بمدينة كربلاء المقدّسة حيث نزل بها فترةً من الزمن.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 8

الثالث: إنه يظهر لمن يقارن هذا التفسير الوجيز بتفسير السورتين في أغلب التفاسير من الخاصّة والعامّة تفوّقه عليها من حيث التحقيق في ألفاظ الآيات المباركة والتدبّر في زكاتها والشموليّة للمعاني المختلفة والدقائق الحكميّة والأدبيّة وغيرها.

هذا، وقد طبع هذا الكتاب للمرّة الاولي مع فوائد أضافها في الهوامش سماحة العلامة الحجة الحاج السيد محمّد علي الميلاني دامت بركاته.

هذا، ولا يخفي أنّا لم نضف علي الهوامش شيئاً، كما أنّ ما يجده القارئ من الاختلاف في الاسلوب في السّورتين،

فسببه أنّ مقرّر سورة التغابن غير مقرّر سورة الجمعة من تلامذة سماحة السيد قدّس سرّه.

وقد عني بتحقيق الكتاب في هذه الطبعة بمراجعة المصادر وتطبيق النصوص بقدر الإمكان، حضرة الفاضل السيد محمّد المرعشي حفظه اللَّه.

لجنة النقد والتحقيق

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 9

مقدّمة الطبعة الأولي … ص: 9

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علي خير خلقه محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.

يحتلّ التّفسير مكانةً ساميةً بين العلوم الإسلاميّة، وذلك لأنّ أهميّة كلّ علم بأهميّة موضوعه، وإذ كان موضوع علم التّفسير: هو القرآن الكريم، معجزة السّماء الخالدة، يدور حوله ليستجلي غوامضه ويزيل مكامن الخفاء فيه، صار من أجلّ العلوم الإسلاميّة وأولاها بالعناية والإهتمام.

هذا، وقد صرف علماؤنا الأبرار جهوداً ضخمة في حقل التفسير، وصدرت من رشحات أقلامهم المجلّدات الضخمة والدورات المفصّلة بهذا الشأن، جزاهم اللَّه عن كتابه خيراً.

وإذ كان التخصص في الفقه وأصوله يستوعب أكثر وقت الفقيه،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 10

وذلك في سبيل استقصاء أدلّة الأحكام وتمحيصها، ومناقشة الآراء والنظريات الفقهيّة في المسألة الواحدة، واستفراغ الوسع لاستنباط الحكم الشّرعي من أدلّته التّفصيليّة، فقد كرّس الفقهاء جلّ نشاطهم لتحقيق هذا الجانب من العلوم الإسلامية. علي أنّهم لم يغفلوا عن سائر تلك العلوم.

ولقد برز سيّدنا الوالد تغمّده اللَّه من بين فقهاء الإماميّة في العصر الحاضر- بشهادة القريب والبعيد- متّسماً بسعة الأفق، وأصالة الرؤية، والدّقة في التحقيق … ممّا جعله يُشار إليه بالبنان في الحوزات العلمية أيّدها اللَّه ورعاها.. ولم يكن (قدّس اللَّه نفسه الزّكية) محقّقاً بارعاً ومجتهداً بصيراً في الفقه والأصول فقط، بل كانت له اليد الطولي في الفلسفة وعلم الكلام والتفسير وعلم الأخلاق وسائر العلوم الإسلاميّة.

وإذ هاجر (قدّس سرّه) لأسباب صحية من النجف الأشرف إلي كربلاء المقدّسة، ولبّي رغبة العلماء والفضلاء في الإقامة ببلدة سيّد

الشّهداء عليه السّلام، بدأ بتدريس البحث الخارج في الفقه والأصول، لكن هذا لم يرو ظمأ طلّاب العلم وروّاد المعرفة في تلك الحوزة المقدّسة، فراحوا يطلبون منه درساً في التفسير وعلم الكلام أيضاً.

بناءً علي ذلك، فقد قام سيّدنا الوالد (قدّس سرّه) بتدريس هذين العلمين في كربلاء المقدّسة بين عامي 1360 و 1372 الهجريين، وقد كان الأفاضل من ملازمي بحثه وطلّابه، يكتبون تلك الأبحاث ثمّ يقرأونها عليه. وربما أبدي عليها ملاحظاته وأجري عليها بعض التعديلات.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 11

والكتاب الذي بين يديك نموذج من تلك الكتابات التي دوّنها بعض الفضلاء من تلامذة السيّد الوالد من مجلس بحثه الشريف، في تلك الفترة.

وإذ هاجر السيّد الوالد الي مشهد المقدّسة عام 1373 لغرض زيارة الإمام الرّضا عليه آلاف التّحية والثّناء، حال العلماء والفضلاء في مشهد دون عودته إلي كربلاء، واستجاب لرغبتهم في حطّ رحاله بهذه البلدة المقدّسة. فراح يلقي أبحاثه العالية في الفقه والأصول علي رواد التحقيق والبحث الخارج …

إلي أن فاضت روحه الطّاهرة إلي بارئها في رجب 1395 هجرية، ودُفن في المرقد الرضوي المطهّر، في المكان الذي يسمي ب (دار الفيض).

فيما يتعلق بالأبحاث الأصوليّة التي دوّنها السيد الوالد وناولها إلي خواص تلاميذه، لم يصل بيد الأسرة إلّاأجزاء مبعثرة، وأمّا فيما يتعلق بالأبحاث الفقهية فقد استطاع ابن أخي حجة الاسلام السيد الفاضل الميلاني من تنظيم مجموعة منها عن طريق الأشرطة المسجلة ومذكرات السيد نفسه، وتحقيقها.

وقد وفّقه اللَّه إلي طبع أبواب الزكاة والخمس وصلاة المسافر في أربعة أجزاء، وأمّا كتاب البيع فهو تحت الطبع.

ومساهمةً منّي في إحياء هذا التراث ونشره إلي الملأ العلمي، فقد قمت باختيار مائة وعشر أسئلة من مجموعة سبع دفاتر، حاوية لشتات

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 12

المسائل

المستفتاة من السيّد الوالد، وراعيت في الإختيار أن تكون المسائل غير فقهية في الغالب، بل تتعلق بالعقائد، والحكمة في التشريع، والجذور المذهبية، وقد أضفت إليها بعض التحقيقات والتعليقات النافعة إكمالا للفائدة، وقدمتها للطبع.

وإذ فرغت من المشروع الأوّل فكرت في تنقيح تفسير سورتي الجمعة والتغابن، فأعدت النظر في ذلك، وأضفت إليه بعض التحقيقات النافعة والتعليقات المفيدة، حتّي خرج بهذا الشكل الذي يجده القاري ء، وأنا أقدم هذا المجهود هدية متواضعة إلي اعتاب سيّدنا الإمام الحجّة المهديّ المنتظر عجّل اللَّه فرجه، راجياً تفضّله بالقبول.

وأعود فأوجه ندائي إلي الفضلاء الذين يحتفظون عندهم ببعض الآثار العلمية للسيّد الوالد، كي يتفضّلوا علينا بالمساهمة والمؤازرة في نشر تلك الآثار، خدمة للعلم والدّين.

وفي الختام أنوّه بدور ابن أخي العلّامة المفضال السيّد عليّ الميلاني، حيث كان يرغب القيام بتحقيق هاتين السورتين وطبعهما، جزاه اللَّه عن عمّه خير الجزاء.

أخذ اللَّه بأيدي العاملين لخدمة الدّين الحنيف ونشر علوم أهل البيت عليهم السّلام، ووفّقنا لمرضاته، إنّه سميع مجيب.

مشهد المقدّسة

13 رجب 1401 هجريّة

السيّد محمّد عليّ الميلاني

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 15

تفسير سورة الجمعة … ص: 15

سورة الجمعة … ص: 15

[1]»

[1] سورة الجمعة مدنيّة، نزلت بعد الصّف- كما في مصحف الإمام الصّادق عليه السّلام- قيل السنة الخامسة من الهجرة، من المسبّحات «1».

وقال صدر المتألهين: «سورة الجمعة مشتملة علي أمّهات المقاصد الإيمانيّة، محتوية علي أصول الحقائق العرفانيّة، من معرفة اللَّه سبحانه، وحقيقة المبدأ والمعاد، وكيفيّة البعث والإرسال، والتعليم والإنزال، وماهيّة الكتاب والرّسول، والهداية للعقول» «2».

__________________________________________________

(1) الإتقان للسيوطي: 13، وتاريخ القرآن للزنجاني: 56، والتفسير الحديث: محمّد عزة دروزة 7/ 277، وتاريخ قرآن راميار: 250.

(2) تفسير صدر المتألهين 7/ 140.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 16

«بِسْمِ اللَّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ [1]»

«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ».

الحمد

للَّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه، والصّلوة والسّلام علي الصّادع بالرّسالة الموحي إليه بالقرآن الكريم محمّدٍ خاتم النّبيين وآله الطيّبين الطّاهرين.

وبعد: فهذا جزء من المعارف الإلهيّة في تفسير سورة الجمعة، قال عزّ من قائل «يُسَبِّحُ» [2] هذا هو التّسبيح التّكويني، أي أنّها

[1] عن عبداللَّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللَّه عن تفسير بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم، قال عليه السّلام: الباء بهاء اللَّه، والسّين سناء اللَّه، والميم مجد اللَّه- وروي بعضهم: الميم ملك اللَّه- واللَّه إله كلّ شي ء، الرّحمن بجميع خلقه، والرّحيم بالمؤمنين خاصّة» «1».

[2] قال المحدّث القمي: «إنّ جميع المصنوعات والممكنات بصفاتها ولوازمها وآثارها، دالّة علي صانعها وبارئها ومصوّرها، وعلمه وحكمته شاهدة بتنزّهه عن صفاتها المستلزمة للعجز والنّقصان، مطيعة لربّها فيما خلقها له وأمرها من مصالح عالم الكون، موجّهة إلي ما خلقت

__________________________________________________

(1) أصول الكافي 1/ 89، باب معاني الأسماء واشتقاقها.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 17

تسبّح بذواتها ووجوداتها، فإنّ معني التّسبيح: التّنزيه، والأشياء كلّها بذواتها منزّهة للَّه تعالي، تنزّهه عن الشريك، لأنّه لو كان له سبحانه شريك لما وجد شي ء، أو وجد من كلّ شي ء اثنان متماثلان بتمام التماثل وبجميع الخصوصيّات.

أمّا وجودها، فبالضرورة، وأمّا عدم المماثلة، فلأنّه بديهي، إذ بعد ملاحظة الأفراد من الجنس الواحد أو النوع الواحد كالتمرتين أو الحنطتين أو الحجرين أو الشّجرتين أو الحيوانين كشاتين وفرسين وإنسانين، وغيرها من سائر المخلوقات، يري المايز بينهما وعدم المماثلة من جميع الجهات، وهذا لا يختص بزمان دون زمان، ومكان دون مكان، فإن جزئياً، كزيد المعيّن من جميع الجهات بعد التأمل في وجوده بعد إن لم يكن، يدلّ علي أنّ له موجداً وأنّه واحد.

له، فسكون الأرض خدمتها وتسبيحها، وصرير الماء وجريه تسبيحه وطاعته،

وقيام الأشجار والنباتات ونموّها، وجري الرّياح وأصواتها، وهذه الأبنية وسقوطها، وتحريق النّار ولهيبها، وأصوات الصواعق، وإضائة البروق، وجلاجل الرعود، وجري الطيور في الجوّ ونغماتها، كلّها طاعة لخالقها وسجدة وتسبيح وتنزيهٌ له سبحانه» «1».

__________________________________________________

(1) سفينة البحار 1/ 594.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 18

أمّا الأوّل، فواضح.

وأمّا الثاني، فإنّه لو صدر عن اثنين، فإن استقلّا في التأثير فيه كاملًا، لزم تعدده مع أنّه واحد، وإن اشتركا، فلو أثّر كلّ في بعضه لزم تركّب الوجود مع أنّه بسيط [1]، ولو أثّر المجموع فيه بنحو كانا جزئي العلّة، لم يكن واحد منهما علّة تامّة، وذلك نقص فيهما. مضافاً إلي أنّه لا يخلو كونهما كذلك: إمّا لعدم القدرة، أو لمغلوبيّة كلّ للآخر المزاحم له، أو عبثا … والكلّ باطل.

فكلّ موجود يدلّ علي أنّ موجده واحد لا شريك له.

أمّا إثبات أنّ موجد كلّ طائفة من الممكنات عين موجد الأخري، فهو بإجراء ما تقدّم، من أنّه لولا ذلك، فاختصاص كلّ بما خلق: إمّا لعدم تمكّنه من غيره، أو لمغلوبيّته للآخر، أو عبثاً وبخلًا عن إصدار الفيض … والكلّ باطل، وجميع ذلك مستحيل. وعليه، يجب أن يفيض كلّ منهما في كلّ طائفة وفي كلّ موجود، فيلزم أن يكون كلّ ما يفرض واحداً اثنين، مع أنّه لا يوجد اثنان متماثلان في جميع

[1] لما تقرّر في محلّه من أنّه لا يوجد مفهوم أعمّ من الوجود حتي يكون جنساً له، وإذا لم يكن للوجود جنس، فليس له فصل، لأنّ الفصل يميّز بعض أفراد الجنس عن البعض الآخر، وقد فرض انتفاء الجنس عن الوجود. وكلّ ما ليس له جنس وفصل، فهو بسيط.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 19

الخصوصيّات، بحيث لا يكون بينهما مائز أصلًا.

وكما أنّ جميع الموجودات تنزه اللَّه

عن الشريك، فإنّها تنزّهه عن العجز، لأنّه لو كان عاجزاً لما تمكن من خلقها. وتنزّهه عن الجهل، فإنّ وجودها يدلّ علي علمه تعالي، حيث إن خلق شي ء لا يكون بلا علم، كما قال عزّ من قائل «أَ لايَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» «1»

فينفي عنه الجهل، وكذلك بالدلالة علي كلّ محمدة ينفي ضدّها ونقيضها عنه سبحانه وتعالي فتنزّهه وتسبّحه. وبعبارة أخري: إنّ كلّ ما يشاهد في الممكنات من الصفات الوجودية، وكلّها محمودة وجميلة، مثل كونها ذوات حياة ومشيّة وسمع وبصر وإدراك وتدبير، إلي غير ذلك، يدلّ علي ثبوتها بنحو أكمل وأتمّ وأعلي وأرفع لخالقها، إذ كلّ ذلك منه، والفاقد لشي ءٍ لا يعقل أن يعطيه، وعليه، فإنّ جميع الموجودات تنزّهه وتسبّحه وتنفي عنه إضداد هذه الصفات ونقائضها، فالممكنات تثني علي خالقها وتحمده ابتداءً، وبوسيلة هذا الثناء والحمد تسبّحه، فالكلّ يسبّحونه بحمده بألسنتهم الوجودية [1]،

[1] قال علي عليه السّلام: مُسْتَشْهداً بكليّة الأجناس علي ربوبيّته، وَبعَجْزها علي قدرته، وبفطورها علي قدمته، وبزوالها علي بقائه، فلا لها

__________________________________________________

(1) سورة الملك، الآية: 13.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 20

ويضيف بعضهم إلي ذلك التسبيح والتحميد بالألسنة الخارجية. ولمّا كان تسبيح المخلوقات لازم وجوداتها لا ينفك عنها، كما تقدّم من أنّ ذواتها مسبّحة للَّه تعالي، أتي بالفعل المضارع الدال علي الدوام والإستمرار، وفي إتيانه في بعض الموارد بالفعل الماضي نكتة [1] ستجي ء في محلّها إن شاء اللَّه تعالي.

محيصٌ عن إدراكه، ولا خروج عن إحاطته بها، ولا احتجاب عن إحصائه لها، ولا امتناع من قدرته عليها، كفي بإتقان الصنع لها آية وبمركب الطّبع عليها دلالة، وبحدوث الفَطْر عليها قدمةً، وبأحكام الصّنعة لها عبرةً، فلا إليه حدّ منسوبٌ ولا له مثل مضروبٌ ولا شي ء عنه محجوبٌ، تعالي عن ضرب

الأمثال والصّفات المخلوقة علوّاً كبيراً» «1».

[1] قال الفخر الرازي: أنّه تعالي قال في البعض من السّور «سَبَّحَ لِلَّهِ» وفي البعض «يُسَبِّحُ لِلَّهِ» وفي البعض «سَبّحْ» بصيغة الأمر، ليعلم أنّ تسبيح حضرة اللَّه تعالي دائم غير منقطع، لما أنّ الماضي يدلّ عليه في الماضي من الزّمان، والمستقبل يدلّ عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدلّ عليه في الحال «2».

__________________________________________________

(1) نهج السعادة 3/ 11.

(2) تفسير الفخر الرازي 29/ 310.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 21

«لِلَّهِ» [1] قيل: إنّه علم للذات الواجب الوجود المستجمع

وقال صدر المتألهين: وإنّما قال مرّة «سبّح للَّه» بصيغة الماضي، ومرّة «يسبّح للَّه» بصيغة المضارع، ليكون تنبيهاً للنّاظر الخبير والأديب الأريب علي دوام وقوع تنزيهه عن صفات الموجودات المتغيرات وعن سمات الممكنات الثابتات فيما سبق وفيما لحق، أي:

سَبَّحَ له سوابق الممكنات، ويسبّح له لواحق الكائنات ممّا في الأرض والسماوات من جهة أسبابها وعللها السابقة وعوارضها ونتائجها اللّاحقة «1».

[1] قال شارح المواقف: إنّ اسم «اللَّه» لفظ مخصوص، والمسمّي هو الذي وضع اللّفظ في قباله والخلاف في تعقّل كنه ذاته، ووضع الإسم لا يتوقّف عليه، إذ يجوز أن يعقل ذات ما بوجه ما، ويوضع الإسم لخصوصيّة ويقصد تفهيمها باعتبار ما، لا بكنهها، ويكون ذلك الوجه مصحّحاً للوضع وخارجاً عن مفهوم الإسم، كما في لفظ «اللَّه» فإنّه اسم علم له موضوع لذاته من غير اعتبار معني فيه «2».

وقال الطريحي عن بعض المحقّقين: الأسماء بالنّسبة إلي ذاته

__________________________________________________

(1) تفسير صدر المتألّهين 7/ 141.

(2) لغتنامه دهخدا 4/ 2488.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 22

المقدّسة علي أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما يمنع اطلاقه عليه تعالي، وذلك كلّ اسم يدلّ علي معني يبجلّ العقل نسبته إلي ذاته الشريفة، كالأسماء الدالّة علي الأمور الجسمانيّة أو ما هو مشتمل

علي النّقص.

الثّاني: ما يجوز عقلًا إطلاقه عليه، وورد في الكتاب العزيز والسنّة الشريفة تسميته به، فذلك لا حرج في تسميته به بل يجب امتثال الأمر الشرعي في كيفيّة اطلاقه بحسب الأحوال والأوقات والتعبّدات إمّا وجوباً أو ندباً.

الثالث: ما يجوز اطلاقه عليه ولكن لم يرد ذلك في الكتاب والسنّة، كالجوهر، فإنّ أحد معانيه كون الشي ء قائماً بذاته غير مفتقر إلي غيره، وهذا المعني ثابت له تعالي، فيجوز تسميته به، إذ لا مانع في العقل من ذلك، لكنّه ليس من الأدب، لأنّه وإن كان جائزاً عقلًا ولم يمنع منه مانع، لكنّه جاز أن لا يناسبه من جهة أخري لا نعلمها، إذ العقل لم يطّلع علي كافّة ما يمكن أن يكون معلوماً، فإنّ كثيراً من الأشياء لا نعلمها إجمالًا ولا تفصيلًا، وإذا جاز عدم المناسبة ولا ضرورة داعية إلي التسمية، فيجب الإمتناع من جميع ما لم يرد به نصّ شرعي من الأسماء،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 23

لجميع الصفات الكمالية، وقيل: علم جنس منحصر في واحد، ولما كان معناه علي القولين الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية [1]، كان مستحقّاً لأن يسبّحه:

«ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» من المجردات والماديات

وهذا قول العلماء إنّ أسماءه تعالي توقيفية، يعني موقوفة علي النّص والإذن في الإطلاق «1».

وفي الكافي عن الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام قال: «سئل عن معني «اللَّه» فقال عليه السّلام:

استولي علي ما دقّ وجلّ (وهو استيلاؤها علي دقيق الأشياء وجليلها) «2».

[1] قال السيّد المدني: «اللَّه» أصله أَلَهَ حُذف الهمزة وعوّض منها حرف التعريف، ثمّ جعل علماً للذّات المقدّسة الجامعة لصفات الكمال، وزعم بعض أنّه إسم جنس موضوع لمفهوم الواجب الوجود لذاته، المستحق للعبودية، وكلّ منها

كلّي انحصر في فرد «3».

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين كلمة (سما).

(2) أصول الكافي 1/ 89، باب معاني الأسماء واشتقاقها.

(3) الحدائق النديّة في شرح الصمديّة: 3.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 24

والجواهر والأعراض والنامي وغيرها [1]. والمراد بالسموات، الجهات العليا، وبالأرض، الجهات السفلي، ليشمل السماء والأرض، أو المراد بهما المصطلحان ويشملهما الحكم أيضا بالدلالة العرفية، كقولك: ما في البلد للسلطان، فإنّه يشمل نفس البلد أيضاً.

تكملة:

قد ظهر ممّا ذكر أنّ تسبيح الممكنات، هو بجهاتها الوجودية التي تكون بها حامدة ومادحة لبارئها، فإنّ الفعل الجميل بنفس وجوده يعرّف جمال الفاعل ويحمده، مثلًا: إذا رأيت صنعاً دقيقاً، فهو يدلّك علي مهارة صانعه ويرشدك إلي كماله، فكما أنّ الفاعل

[1] عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: «لو اجتمع أهل السماء والأرض أن يصفوا اللَّه بعظمته لم يقدروا» «1».

قال الطنطاوي: كلّ شي ءٍ في السموات والأرض إذا نظرت إليه، دلّلت علي وحدانيّة خالقه وعلي تنزيهه وجميع الأشياء مسخّرة له مقهورة، فالتّسبيح إمّا دلالة للعقلاء وإمّا حصول الآثار في الأشياء المسخّرة للَّه تعالي «2».

__________________________________________________

(1) الكافي: 1/ 79.

(2) تفسير الجواهر 24/ 170.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 25

يحمد نفسه بإيجاد فعله الجميل- ولذا نقول: أنّه سبحانه وتعالي أوّل حامد لنفسه، حيث أنّه تبارك وتعالي أوجد الكائنات المحفوفة باللطائف والدقائق التي لا تحصي- كذلك الموجودات تحمده وتمدحه، وتعرّف علمه وقدرته وحكمته وربوبيّته واستجماعه لجميع صفات الكمال والجمال [1]، وفي أثر هذا الحمد تسبّحه وتقدّسه وتنزّهه عن صفات النقص وتجلّه عنها. ومن هنا تبيّن معني قوله تعالي: «وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» «1»

أي متلبّساً بالحمد، يكون مسبّحاً. ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه راجع إلي الموجودات بما لها من اللّسان التكويني، بل الموجود هو بكلّه لسان لا أنّ لسانه جزء منه.

وربما

يقال: إنّ جميع الموجودات حتّي الذرات لها جهة شعور وإدراك ولها ألسنة تناسبها، فإن كان الأمر كذلك، إجتمع هناك تسبيحان، كما هو كذلك في المسبّح من الإنسان، فإنّه يسبّح بلسان الحال والقال.

[1] قال المظفّر: عقيدتنا في صفاته تعالي : ونعتقد أنّ من صفاته تعالي الثبوتية الحقيقية الكماليّة التي تسمّي بصفات الجمال والكمال، كالعلم والقدرة والغنيّ والإرادة والحياة- وهي كلّها عين ذاته ليست هي

__________________________________________________

(1) سورة الإسراء، الآية: 44.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 26

صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلّاوجود الذّات، فقدرته من حيث

الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حيّ، وحيّ من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية، نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها لا في حقائقها ووجوداتها، لأنّه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات، لزم تعدّد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد. وأمّا الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقيّة والرازقيّة والتقدّم والعليّة، فهي ترجع في حقيقتها إلي صفة واحدة حقيقية، وهي القيوميّة لمخلوقاته، وهي صفة واحدة تنتزع منها عدّة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات. وأمّا الصفات السلبيّة التي تسمّي بصفات الجلال فهي ترجع جميعها إلي سلب واحد هو سلب الإمكان عنه، فإن سلب الإمكان لازمه بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفّة وما إلي ذلك، بل سلب كلّ نقص، ثمّ إنّ مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلي وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصّفات الثبوتية الكمالية، فترجع الصفات الجلالية (السلبيّة) آخر الأمر إلي الصفات الكمالية (الثبوتية) واللَّه تعالي واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 27

«الْمَلِكِ» [1] أي السلطان

المطلق للعالم العلوي وما فيه، من الملك والكواكب والشمس والقمر وغيرها، والعالم السفلي وما اشتمل عليه من الإنس والجنّ والشياطين وما سواها، وما فوقهما وما تحتهما.

الواحد الصّمد «1».

[1] قال الشيخ الطّوسي قدّس سرّه: «الملك» يعني المالك للأشياء كلّها، ليس لأحد منعه منها، «القدوّس» المستحق للتعظيم بتطهير صفاته من كلّ صفة نقصٍ، «العزيز» معناه القادر الذي لا يقهر ولا يغلب، «الحكيم» في جميع أفعاله «2».

وقال الفخر الرازي: «الملك» إشارة إلي إثبات ما يكون من الصفات العالية ولفظ «القدّوس» هو إشارة إلي نفي ما لا يكون منها، وعن الغزالي (القدّوس) المنزّه عمّا يخطر ببال أوليائه» إلي أن قال «الثاني القدّوس من الصّفات السلبيّة، وقيل: معناه المبارك «3».

وقال العلّامة الطباطبائي: التسبيح تنزيه الشي ء، ونسبته إلي

__________________________________________________

(1) عقائد الإماميّة: 16.

(2) التبيان في تفسير القرآن 10/ 3- 4.

(3) مفاتيح الغيب/ التفسير الكبير للفخر الرازي 30/ 537.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 28

واختص هذا الوصف وما بعده بالذكر، لأنّ تسبيح الأشياء له تعالي بها أظهر، كما لا يبعد ذلك.

«الْقُدُّوسِ» أي المنزّه غاية التنزه حتي عن الإحتياج إلي المؤثّر، فإنّ غيره وإن كان مجرّداً عن عالم المادة بتوابعها، وعن الجسمية ولوازمها، لكنّه مع ذلك لا غناء له عن كثير من الحاجات، ولا أقلّ ممّا تستلزمه جهة إمكانه، فالمنزّه عن جميع الجهات ليس إلّا هو جلّ وعزّ.

«الْعَزيزِ» العزّة لا تحصل لشي ءٍ إلّابأمرين: قلّة وجوده، واحتياج الغير إليه ليستفيد منه، فالكثير وجوده وإن احتاج الكلّ إليه ليس عزيزاً، كما تري في الماء والهواء، فكلاهما من المحتاج إليهما غاية الإحتياج، لكن كثرتهما سبب لعدم عزّتهما، وكذلك غير المحتاج إليه وما لا فائدة يعتد بها فيه، وإن قلّ وجوده غاية القلّة حتي

الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص، والتعبير بالمضارع للدلالة

علي الإستمرار، و «الملك» هو الإختصاص بالحكم في نظام المجتمع، و «القدوس» مبالغة في القدس وهو النّزاهة والطهارة، و «العزيز» هو الذي لا يغلبه غالب، و (الحكيم) هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف «1».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 263.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 29

انحصر في فرد، كما هو واضح.

وهو سبحانه فرد متفرّد لا ندّ له، محتاج إليه غاية الإحتياج، فإنّ الأشياء كلّها في الآنات جميعها محتاجة إليه، فهو تعالي عزيز بقول مطلق، وعزّة ما سواه حاصلة منه، كما هو ظاهر.

«الْحَكيمِ» ذو الحكمة البالغة الكاملة، وهو العالم بالأشياء وترتيبها وتنظيمها علي أحسن وجه وأكمل ترتيب، فإنّ الحكمة- كما تحقّق في محلّه- نظريّة وعمليّة، والحكيم المطلق هو الحائز لهما، فيعلم ما ينبغي أن يعلم، ويعمل ما ينبغي أن يعمل، وهو سبحانه وتعالي عالمٌ بتدبير الأمور في الكائنات من السّموات والأرضين وما بينهنّ وما فوقهنّ وما تحتهنّ، وجاعلٌ لها علي أحسن ما يكون وأتمّ ما يتصوّر. وبهذا تبيّن الوجه في قوله عزّ من قائل (الحكيم) دون العليم والقدير، إذ الحكمة المطلقة تستلزم العلم والقدرة دون العكس، ومن شؤن هذه الحكمة بعث الرّسل، كما سنذكره.

واعلم أنّ تنزيه الأشياء- بالمعني المتقدّم في قوله «يسبّح للَّه» تعالي - بالملك والنّزاهة والعزّة والحكمة، أظهر وأوضح من تنزيهها له تعالي ببعض صفاته الجلاليّة أو الجماليّة الخارجة عن هذه الصفات كما لا يخفي [1]. أمّا مثل عدم التركيب (أعني الواحديّة)

[1] قال صدر المتألّهين في الفرق بين صفات الذّات وصفات

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 30

الفعل: «كلّ ما هو صفة الذّات، فهو أزلي غير مقدور، وكلّ ما هو صفة الفعل، فهو ممكن مقدور، وبهذا يعرف الفرق بين الصفتين. فإذن نقول لمّا كان علمه

تعالي بالأشياء ضروريّاً واجباً بالذّات، وعدم علمه بها محالًا ممتنعاً بالذّات، فلا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ولا يقدر أن لا يعلم، لأنّ أحد الطرفين واجب بالذّات والآخر ممتنع بالذّات، ومصحّح المقدورية هو الإمكان، وكذا الكلام في صفة الملك والعزّة والحكمة والجود والمغفرة والغفران وغيرها من صفات الذّات، كالعظمة والكبرياء والجلال والجمال والجبروت وأمثالها، وهذا بخلاف صفات الفعل، فإنّه يجوز أن يقال: أنّه يقدر أن يثيب ويعاقب، ويقدر أن لا يثيب ولا يعاقب، ويقدر أن يحيي ويقدر أن يميت، ويقدر أن يهدي ويقدر أن يضلّ، وهكذا في سائر صفات الأفعال. فمن هذا السّبيل يعلم الفرق بين صفة الذّات وصفة الفعل» «1».

وقال العلّامة الطباطبائي في صفات الذّات والفعل: «وتحقّق أنّ وجوده صرف بسيط واحد بالوحدة الحقة، فليس في ذاته تعدّد جهة، ولا تغاير حيثية، فكلّ كمال وجودي مفروض فيه عين ذاته، وعين

__________________________________________________

(1) شرح أصول الكافي، كتاب التوحيد، باب الإرادة، ذيل الحديث السّابع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 31

وعدم الشركة (أعني الأحديّة) فظاهرٌ من الملكيّة المطلقة، فإنّ المالك المطلق لا يمكن أن يكون أكثر من واحد. بل يمكن أن يقال بأنّ الأوصاف الأربعة المذكورة في الآية، مستلزمة لجميع الصفات الجماليّة والكمالية [1]

الكمال الآخر المفروض له.

فالصفات الذّاتية التي للواجب بالذّات كثيرة مختلفة مفهوماً، واحدة عيناً ومصداقاً وهو المطلوب … ولا ريب أنّ للواجب بالذّات، صفات فعليّة مضافة إلي غيره، كالخالق والرازق والمعطي والجواد والغفور والرّحيم إلي غير ذلك، وهي كثيرة جدّاً يجمعها القيّوم، ولمّا كانت مضافة إلي غيره تعالي، كانت متوقفة في تحققها إلي تحقّق الغير المضاف إليه، وحيث كان كلّ غير مفروض معلوماً للذّات المتعالية، متأخّراً عنها، كانت الصّفة المتوقفة عليه متأخّرة عن الذّات، زائدة عليها، فهي

منتزعة من مقام الفعل منسوبة إلي الذّات المتعالية» «1».

[1] وتسمّي في عرف الكلاميّين بالصّفات الثبوتيّة والسّلبية أيضاً، أمّا الصّفات الثبوتيّة، فهي كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وغيرها.

وأمّا الصّفات السلبيّة الجلالية للَّه تعالي ، فهي الشريك والتركيب

__________________________________________________

(1) نهاية الحكمة: 251 و 253.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 32

والإمكان والرؤية، والإحتياج إلي ما سواه، وامتناع القبح عليه، ونفي الجسميّة عنه، وعدم حلوله في مكان، جلّ جلاله عن هذه الصّفات.

قال آية اللَّه العظمي الشيخ محمد حسين الأصفهاني في الصفات الثبوتيّة والسّلبية والجماليّة والكماليّة:

صفاته الكاملة العليّة إمّا ثبوتيّة أو سلبيّة

بها تجلّت لأولي الكمال مراتب الجلال والجمال

والحقّ ذو الجلال والإكرام بالإعتبارين بلا كلام

ثمّ الثبوتيّة من صفاته إمّا شؤون فعله أو ذاته

فما يكون من شؤون الذّات كالعلم والقدرة والحياة

هي الحقيقيّة عند الحكماء وتلك عين الذات أيضاً فاعلها

وما يكون من شؤون فعله فإنّهُ كخلقه وجعله

هي الإضافيّة وهي واحدة وهي علي الذّات لديهم زائدة

لا توجب السّلوب كثرة ولا حدّاً لها وإن تكن بشرط لا

بل هي سلب مطلق النقصان كسلب الإفتقار والإمكان

كلّ كمال كان للموجود فثابت لواجب الوجود

وما يسمّي صفة الجمال لا شكّ أنّه من الكمال

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 33

ولهذا اختصّت بالذّكر، فَتَدبّرَ [1].

ومثله فيه تعالي شأنه يكفيه في وجوبه إمكانه

كيف ولا كمال للذّوات بلا وجود كامل بالذّات

[1] أقول: هذه الصّفات غير الصّفات التي ذكرها أمير المؤمنين علي عليه السلام، حيث قال: «أوّل الدّين معرفته، وكمال معرفته التّصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، فمن وصف اللَّه سُبحانه فَقَدْ قَرَنَهُ» «1».

قال السيّد القزويني الحائري:

التوحيد علي أربعة مراتب 1- توحيد الذّات 2- توحيد الصّفات 3- توحيد

الأفعال 4- توحيد العبادة؛

والمقصود من التّوحيد هنا هو: توحيد الذّات أي يعتقد العبد إنّ اللَّه وحده لا شريك له، وتوحيد الصّفات هو: أنّ صفات اللَّه عين ذاته وذاته عين صفاته، وسيأتيك التّفصيل في المستقبل القريب إن شاء اللَّه تعالي، وتوحيد الأفعال هو: إنّ اللَّه خلق الموجودات الأوليّة كالسّموات

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 1.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 34

والأرضين وغيرها بلا معين ولا آلة، وتوحيد العبادة هو: أن يعبد العبد ربّه خالصاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً، والقسم الأخير هو النّوع الكامل، كما قال عليه السّلام: «وكمال توحيده الإخلاص له»، وقيل: المقصود من الإخلاص، هو جعله خالصاً من النّقائص، كالجسم والعرض وما شاكل من النّقائص، فهذه المراتب الأربع كاملة بالنّسبة إلي ما قبلها، ناقصة بالنّسبة إلي ما بعدها، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، أشار عليه السّلام إلي توحيد الصّفات.

فنقول: كلّ موجود في العالم موصوف بصفة من الصّفات، كالعلم، والحياة وغيرهما من ملايين الصّفات، فهناك فرق بين الصّفة والموصوف، مثلًا علم الإنسان غير الإنسان نفسه، أو حلاوة التّمر غير التّمر، فالصّفة غير الموصوف والموصوف غير الصّفة والفرق بينهما كثير، لأنّ الصّفة عرض والموصوف جوهر، لكن صفات اللَّه تعالي عين ذاته وذاته عين صفاته، وبعبارة أخري: إنّ اللَّه وصفاته شي ء واحد، لا فرق بينهما في الوجود والحقيقة، وقد سبق في كلامه عليه السّلام إنّه ليس لصفته حدّ محدود، فإذا كانت الصّفة عين الذّات فكذلك الذّات

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 35

غير محدودة، وأدني مراتب الإخلاص في العبادة قصد القربة إلي اللَّه تعالي، وعدم قصد الرّياء والسمعة، وأعلي مراتب الإخلاص نفي الصفات عن الباري جلّ وعلا، أي إذا أتي العبد

بعمل خالصاً للَّه، فكان يعتقد أنّ ربّه شي ءٌ وصفته شي ءٌ آخر فقد عبد إلهين اثنين، أحدهما الذات والآخر الصفة، ولكنّه إذا اعتقد توحيد الذات والصّفات كما تقدّم، فقد أخلص كمال الإخلاص، فمن وصف اللَّه سبحانه فقد قرنه، قد ذكر عليه السّلام في أوائل الخطبة «ليس لصفته حدّ محدود».

ثمّ ذكر عليه السّلام (وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه) فكيف الجمع بين هاتين العبارتين؟

فنقول: المقصود من الجملة الأولي إنّ صفة اللَّه عين ذاته وذاته غير محدودة فصفته غير محدودة، والمقصود من نفي الصفات عنه، أي الصفات الزائدة علي وجود الذّات ووجود الذّات غير وجودها كما تقدّم في المثال بالإنسان والعلم، فمن وصف اللَّه بتلك الصفات الزائدة علي الذات، فقد قرنه بغيره أي قرن ذات اللَّه بغير ذاته، مثلًا: إذا اعتقد أنّ علم اللَّه كعلم الناس، أي إنّ اللَّه شي ء وعلمه شي ء آخر، فقد جعله قرين علمه «1».

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة للسيّد محمّد كاظم القزويني الحائري 1/ 34.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 36

وقال السيد حبيب اللَّه الخوئي: وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه أي الصفات التي وجودها غير وجود الذات، وإلّا فذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكماليّة والأوصاف الإلهيّة من دون قيام أمر زائد بذاته تعالي، فرض أنّه صفة كماليّة له، فعلمه وإرادته وقدرته وحياته وسمعه وبصره كلّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة، مع أنّ مفهوماتها ومعانيها متخالفة، فإنّ كمال الحقيقة الوجودية في جامعيّتها للمعاني الكثيرة الكماليّة مع وحدة الوجود «1».

وقال العلّامة مغنية: لا يختلف اثنان من المسلمين في أنّ اللَّه سبحانه يوصف بكلّ ما وصف به نفسه في كتابه العزيز، وإنّ عظمته في الكمال والجلال كما هي، لا يحدّها وصف ولا يدركها عقل، وإنّها أزليّةٌ أبديّة تماماً كذاته القدسيّة … وإنّما

الكلام والخلاف في أنّ الصّفات العليا بأيّ معني تنسب إليه تعالي وتطلق عليه، هل تنسب إليه جلّت عظمته علي أنّها شي ء غير الذات وزائدة علي كنهها وحقيقتها تماماً، كما هي الحال في وصف الإنسان بالعلم، فإنّ حقيقة الإنسان حيوان ناطق، وحقيقة العلم الكشف عن الواقع، فإذا وصفنا الإنسان بالعلم فقد

__________________________________________________

(1) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 1/ 321.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 37

وصفناه بما هو زائد وخارج عن ذاته وطبيعته، وإلّا كان الإنسان بما هو عالماً من غير كسب واستفادة وبحث ودرس، وهذا خلاف الحسّ والوجدان، هل وصف اللَّه بالعلم وغيره كذلك وعلي هذا الحال، أو أنّ اللَّه يوصف بالعلم والقدرة بمقتضي ذاته وحقيقته لا بشي ء زائد عنها تماماً، كوصف الإنسان بالإنسانية والشجر بالشجرية.

وذهب أهل العدل إلي أنّه لا صفات لذات اللَّه تزيد علي ذاته، وإنّ وصفه بالعلم والقدرة تماماً، كوصف الإنسان بالإنسانية والشجر بالشجرية، لأنّ ذاته تعالي بما هي وبطبعها وحقيقتها تقتضي العلم والقدرة، بل هي عين العلم والقدرة، كما أنّ الإنسانية عين الإنسان، لأنّ كماله تعالي ذاتي لا كسبي، ومطلق غير مقيّد بشي ء دون شي ء، وجهة دون جهة، وأنّه بموجب هذا الكمال الذاتي المطلق غنيّ عن كلّ شي ء يزيد علي ذاته وكنهه … ولماذا الزيادة؟ وما هو الداعي إليها ما دامت الذات القدسية كاملة بنفسها من كلّ الجهات؟ وهل نحتاج إلي الزائد لنكمل به الكامل، ونتمم التام؟ وعلي هذا، إذا أطلقت صفات الكمال عليه تعالي، كالعالم والقادر، فيجب أن يراد بها نفس الذات القدسيّة التي تقتضي القدرة والعلم، بل هي عين العلم والقدرة تماماً، كما يراد من

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 38

كلمة اللَّه وكلّ وصف جاء في القرآن الكريم وعلي ألسنة الراسخين في

العلم، فإنّ المراد هذا المعني بالخصوص.

أمّا الصفات المنفيّة عن ذاته تعالي في كلام الإمام عليه السّلام، فهي الأحوال الخارجة عن الذات والزائدة عليها، وتعرض لها بسبب من الأسباب تنفي هذه عنه، لأنّها من صفات المخلوقين دون الخالق.

«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» أي نفي الصفات الخارجة عن الذات وطبيعتها، لا نفي الصفات التي هي عين الذات وحقيقتها، وإلّا فإنّ كلام الإمام عليه السّلام ملي ء بصفات اللَّه سبحانه، بل هو هذا الكلام يصفه أكمل الوصف.

«لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف» وكلمة الصفة تدلّ بنفسها علي نفسها، وإنّها من المعاني المضافة إلي الموصوف التابعة له وجوداً وعدماً، ومن البداهة إنّ التابع غير المتبوع، والمضاف غير المضاف إليه.

«وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة» لأنّه في غنيّ عنها وهي في حاجة إليه، وإذن يستحيل نسبة الصفة إليه تعالي بمعناها الحقيقي وإلّا لزم تعدّد القديم، وتركيب الذات القدسية الواجبة الوجود … وهذه هي الصفة التي يجب نفيها عنه تعالي توحيداً للكمال المطلق، وتنزيهاً لذاته

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 39

«هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ». «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» [1].

عن كل شائبة، أمّا إذا أريد من الصفة مجرّد الإشارة إلي تفردّه تعالي في الجلال والكمال، فجائز قطعاً، وراجح عقلًا وشرعاً، وإلّا فبأيّ شي ء نتوسّل إليه تعالي ونثني عليه؟ «1»

[1] قال عليّ عليه السّلام: إنّ اللَّه بعث محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله، وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّة، فساق الناس حتي بوّأهم محلّتهم وبلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم وأطمأنت صفاتهم «2».

اللغة: بوأهم محلّتهم أنزلهم منزلتهم، القناة القوة والغلبة والدوالة (واطمأنت صفاتهم) إنّهم كانوا

علي حجر أملس متزلزل فاطمأنت أحوالهم في مواطنهم.

وقال عليه السّلام: بعثه والناس ضلّال في حيرة وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حياري في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل، فبالغ صلّي اللَّه

__________________________________________________

(1) في ظلال نهج البلاغة 1/ 20.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 33.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 40

إعلم أنّه يقع الكلام في هذه الآية من وجوهٍ خمسة:

الأوّل: إرتباط هذه الآية بالآية السابقة.

عليه وآله في النّصيحة ومضي علي الطريقة ودعا إلي الحكمة والموعظة الحسنة «1».

اللغة: (وخابطون) ضاربون في البدع علي غير نظام. و (استزلّتهم) أدت إلي الزلل والسقوط في المضار. (واستخفتهم) طيشتهم (الجهلاء) وصف مبالغة للجهل.

وكذا دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، في قوله تعالي:

«رَبَّنا وَابْعَثْ فيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ» «2».

وهو صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، الذي مُنّ علي المؤمنين ببعثته في في قوله تعالي: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَي الْمُؤْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» «3».

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 95.

(2) سورة البقرة، الآية: 129.

(3) سورة آل عمران، الآية: 164.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 41

الثاني: وجه البعث وسببه، وتحقيق معني اللّطف.

الثالث: تحقيق معني الأميّ وما فيه.

الرابع: علّة البعث في الأمّييّن دون غيرهم.

الخامس: سبب كون الرسول منهم دون غيرهم.

أمّا الوجه الأوّل: فيظهر بعد تحقيق الأمور الأربعة، وسنشير إليه إن شاء اللَّه تعالي بعد تحقيقها.

أمّا الوجه الثّاني: فَاعْلم أنّه قد ذكر في وجه بعث الرّسل تفاصيل لا طائل تحتها، وسنذكر وجوهاً أربعة ممّا يمكن الإستدلال به علي وجوب البعثة، بمعني امتناع عدمه مختصراً مجملًا:

الأوّل: قاعدة اللّطف، ومعني وجوبه إمتناع عدمه، لا

الوجوب التشريعي [1]، كما هو ظاهرٌ، والدليل علي امتناع عدمه: لزوم خروج الإله لولاه عن الألوهيّة، والتالي باطلٌ بالضرورة، فالمقدّم مثله.

[1] إرسال الرّسل ونصب الإمام واجبان علي اللَّه من باب اللّطف، لأنّه أوجب علي نفسه «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» «1»

، وهذا كقولنا العدل واجب علي اللَّه، واللطف واجب علي اللَّه، والرحمة واجبة علي

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام، الآية: 54.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 42

اللَّه، وأمثال ذلك هو بمعني: امتناع الظّلم عليه وامتناع عدم اللّطف بيان الملازمة: أنّه لا ريب في كون اللّطف من الصّفات الجماليّة الكماليّة، لحسنه المعلوم بالوجدان والمبرهن عليه في الكتب الكلاميّة، فيلزم اتّصافه سبحانه به، وبعث الرّسل لطفٌ، لأنّ الرّسول هادٍ من الضّلالة، مرشدٌ للناس إلي مصالحهم الجسميّة والعقليّة والدنيويّة والأخرويّة، فلو لم يبعث الرّسل لم يكن لطيفاً، ولو لم يكن لطيفاً لم يكن جامعاً للصّفات الجماليّة [1]، فيكون ناقصاً، والنّاقص لم يكن إلهاً، كما برهن في محلّه، لأنّه هو الجامع للصّفات الكماليّة، فيلزم من عدم بعث الرّسل عدم كونه إلهاً.

وامتناع عدم الرّحمة، ولا يتوهّم من قولنا هذا واجب علي اللَّه، إنّا نقصد الوجوب التشريعي، مثل قولنا الصّلاة واجبة علي العباد.

[1] قال الشيخ المفيد (قده): إنّ ما أوجبه أصحاب اللّطف (الإماميّة) من اللّطف، إنّما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنّوا (المعتزلة) أنّ العدل أوجبه وأنّه لو لم يفعله لكان ظالماً «1».

وقال المظفّر: إنّما كان اللّطف من اللَّه تعالي واجباً، فلأنّ اللّطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحلّ قابلًا ومستعدّاً لفيض الجود واللّطف، فإنّه تعالي لا بدّ أن يفيض

__________________________________________________

(1) أوائل المقالات: 4/ 59 من مصنّفات الشيخ المفيد.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 43

وأمّا ما يقال من

عدم المنافاة بين اللّطف وعدم البعث، لعدم انحصاره فيه، فمردودٌ، بأنّ المراد من اللّطف هو اللّطف المطلق، فلو لم يبعث لم يكن لطيفاً بقولٍ مطلق [1].

الثاني: أنّ بعث الرّسل واجب، وعدمه ممتنع، لأنّ علّة الإيجاد أي سبب خلق الخلق ليس إلّامعرفة اللَّه جلّ شأنه، كما يدلّ عليه

لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه، وليس معني الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك، فيجب عليه أن يطيع تعالي عن ذلك، بل معني الوجوب في ذلك هو كمعني الوجوب في قولك أنّه واجب الوجود أي اللزوم واستحالة الإنفكاك «1».

[1] قال السيد مهدي الصدر: قد تدارك اللَّه عزّ وجلّ البشر بلطفه، وانقذهم من مآسي التسيب والطغيان، بأن اختار منهم رسلًا وأنبياء وحلاهم بأرفع وأكمل الخصائص والمآثر، ليكونوا قادة الفكر ودعاة الإصلاح ورواد الفضائل، وجعلهم من البشر بمنزلة العقل من الإنسان والنور من البصر والشمس من الكواكب يستهدون بهم في متاهات الحياة ومسالكها المليئة بالأشواك والأخطار «2».

__________________________________________________

(1) عقائد الإمامية: 51.

(2) أصول العقائد في النبوة 2/ 20.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 44

البرهان [1]، والأخبار البالغة حدّ التواتر، والحديث القدسي [2]، وقد فسّر بعض الآيات [3] به، وهي أي معرفة اللَّه لا تحصل إلّابالبعث والإرسال، لأنّ العقول غير قابلة لمعرفتة، لأنّ غاية ادراكها المعقولات المستفادة من المحسوسات، ومعرفته تعالي بما لها من المزايا الخاصّة هي المعقولة من جميع الوجوه، كما هو ظاهرٌ، وعليه أخبارٌ كثيرة، فلو لم يبعث لزم نقض الغرض، ولا شكّ في قبحه، لأنّه

[1] قال السيد مهدي الصدر: قد أرسل اللَّه الأنبياء والمرسلين علي الخلق مبشّرين ومنذرين عبر العصور السالفة، وابتعث كلّ فرد منهم بدستور يلائم وعي أمته وظرفها الخاص متدرجاً بدساتيره وشرائعه نحو التكامل، حتي أكملها

وختمها بالإسلام الخالد المواكب لأطوار الحياة والملائم بجميع العصور والأجيال «1».

[2] «كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن اعرف، فخلقت الخلق لأعرف» «2».

[3] قال تعالي: «ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ» «3».

__________________________________________________

(1) أصول العقائد في النبوة 2/ 19.

(2) شرح أصول الكافي: للشيخ محمّد صالح المازندراني 1/ 106.

(3) سورة الذاريات، الآية: 56.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 45

ينشأ من البداء [1] أو عدم القدرة، وكلاهما محالان في حقّه تعالي، للزومهما النّقص، والنّاقص محتاج، والمحتاج ليس إلهاً.

[1] «البداء: كسلام، له معنيان:

الأوّل: البداء بمعني الظهور، بدا له في الأمر، إذا ظهر له استصواب شي ء غير الأوّل، وهو الظهور بعد الخفاء أو حصول العلم بعد أن لم يكن عالماً، مثلًا إذا قيل: بدا لفلان في أمره، معناه ظهر له ما كان مخفياً عليه، أو حصل له رأي ولم يكن سابقاً عالماً ومتنبهاً إليه.

والبداء بهذا المعني مستحيل علي اللَّه عزّ وجلّ، فإنّ علم اللَّه تعالي عين ذاته، فكيف يمكن دخول التغيير والتبديل فيه «لاتَبْديلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» «1»

(وقال): «لاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» «2»

(وقال) «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلًا» «3».

وعلي هذا المعني يحمل ما ورد في الأخبار من استحالة البداء عليه تعالي، كما جاءت به الروايات عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام مثل:

__________________________________________________

(1) سورة يونس، الآية: 64.

(2) سورة الرّوم، الآية: 30.

(3) سورة الفتح، الآية: 23.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 46

1- «إنّ اللَّه لم يَبْدُ لَهُ مِنْ جَهْلٍ» «1».

2- «ما بدا للَّه في شي ء إلّاكان في علمه قبل أن يبدو له» «2».

3- وعن الصّادق عليه السّلام قال: «من زعم أنّ اللَّه عزّ وجلّ يبدو له في شي ء [اليوم ] لم يعلمه أمس فابرؤا منه «3»» «4».

وهذا ما أراده السيّد الوالد قدّس سره

من قوله: (فلو لم يبعث لزم نقض الغرض ولا شك في قبحه، لأنّه ينشأ من البداء أو عدم القدرة وكلاهما محالان في حقّه تعالي).

الثاني من معني البداء: هو إظهار ما كان مستوراً ومخفيّاً للغير، تارةً:

كان هناك مصلحة في إخفاء الأمر ثمّ تزول تلك المصلحة بحصول مصلحةٍ أخري تستوجب الكشف والإظهار، ويظهر به للمكلف ما لم يكن ظاهراً، ويحصل له العلم به بعد إن لم يكن عالماً، وفي هذه الصورة، الأمر الواقع لم يتغيّر ولم يتبدّل، وإنّما التبدل حصل في إظهار ذلك

__________________________________________________

(1) الكافي 1/ 148، الرّقم 10، بابُ البداء.

(2) الكافي 1/ 148، الرقم 9، بابُ البداء.

(3) كمال الدين وتمام النعمة: 70، وبحار الأنوار 4/ 111، الرقم 30 وليس فيه كلمة «اليوم».

(4) راجع مجمع البحرين 1/ 167 و 168، وأجوبة مسائل جار اللَّه للسيّد شرف الدين: 100 باختلافات يسيرة.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 47

المكتوم بعد إخفائه، وتارةً: يكون بقاء الأمر الواقع منوطاً بوجود مصلحة محدودة بزمانٍ خاصّ، فعندما ينتهي ذلك الوقت وتزول المصلحة لا يبقي هذا الأمر، فيظهر من وجود أمر آخر إنّه تابع لمصلحة أخري، وفي هذه الصّورة لا يكون الأمر الواقع هو هو، وإنّما يتغيّر ويتبدّل للمصلحة، لأنّ الأمر الواقع الجديد مستحدث، كما هو الحال في النسخ الذي لا يتخلف عن البداء بشي ء سوي أن البداء في الأمور التكوينية والنسخ في الأمور الشرعيّة.

والبداء بهذا المعني بكلا شقّيه (مصلحة الإظهار وانتهاء زمان المصلحة) جائز علي اللَّه، إذ أنّه لا يستلزم التردد والجهل بالأمور الواقعية أو مصالحها حتي تكون مستحيلًا علي اللَّه، وإنّما هو إظهار ما خفي علي الغير، وعلي هذا يحمل قوله تعالي «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» «1».

مثلًا قدّر اللَّه عمر إنسان

حين صوّره ستّين أو سبعين سنة، لكنّه لو وصل رَحِمه، أو تصدّق بصدقة لأضيف لذلك العمر المقدّر حين التّصوير، ولو قطع رحمه أو فعل الذنب الذي يقطع العمر، لنقص ذلك

__________________________________________________

(1) سورة الزمر، الآية: 47.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 48

العمر إلي الحدّ الذي يعلمه اللَّه».

قال الشيخ المفيد: «في معني البداء وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منهما بالأعمال» «1».

هذا في الأمور التكوينية.

أمّا التشريعية، فلها أمثلة كثيرة في الكتاب والسنّة، واستدلّ المسلمون علي جوازه ووقوعه، منها: إنّ الصلاة كانت في بدء الإسلام إلي جهة بيت المقدس، ثم نسخت وتحوّلت إلي جهة بيت اللَّه الحرام، كما نطقت الآية «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» «2».

ومنها: قصّة إبراهيم عليه السّلام وقوله لإبنه إسماعيل: «إِنّي أَري فِي الْمَنامِ أَنّي أَذْبَحُكَ» «3»

. ومعلوم أنّه رآه عن مكاشفة صدق لا مكاشفة كهانة أو تنجيم عن تجربة ناقصة، ولذا أراد أن يعمل بمقتضاه كان قوله حقّاً وصدقاً وعلمه مرضيّاً عند اللَّه تعالي حتّي إذا أخبره اللَّه بعلمه المكنون عنده بغير ما اطلع عليه أوّلًا من الأمور المدبّرة بالأسباب

__________________________________________________

(1) أوائل المقالات من مصنّفات الشيخ المفيد 4/ 80.

(2) سورة البقرة، الآية: 144.

(3) سورة الصّافات، الآية: 102.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 49

الخاصّة المقدّرة، فعلم إبراهيم عليه السّلام ما لم يكن يعلم، إذ زعم إبراهيم أنّ غير الكائن هو الكائن، ثمّ ظهر له خلافه فيقال لمثل هذا، النّسخ.

والبداء «فهو ما أفاد النّسخ بعينه، ويكون إطلاق ذلك عليه علي ضرب من التوسّع، وعلي هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصّادقين عليهما السّلام من الأخبار المتضمّنة لإضافة البداء إلي اللَّه تعالي، دون ما لا يجوز عليه، من حصول العلم بعد أن لم يكن،

ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالي والتشبيه، هو أنّه إذا كان ما يدلّ علي النسخ، يظهر به للمكلّفين ما لم يكن ظاهراً لهم، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلًا لهم، أطلق علي ذلك لفظ البداء» «1».

إذاً لو قالت الشيعة: بدا للَّه، لم يكن غلطاً، لأنّ البداء في التكوينيات نظير النسخ في التّشريعيّات، فكما أنّ النسخ إنتهاء أمد الحكم لا رفعه وإزالته، فكذلك حقيقة البداء إنتهاء اتصال إفاضة الوجود، لتضييق دائرة اقتضاء الشرائط والمعدات والقوابل والإستعدادات، وهذا معني الآية «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ

__________________________________________________

(1) عدّة الأصول 2/ 495 و 3/ 29.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 50

أُمُّ الْكِتابِ» «1»

أي إنّ عند اللَّه لوحين: لوح يصحّ فيه المحو والإثبات، ولوح ثابت لا يتغيّر، وهو اللوح المحفوظ.

بعبارة أخري: «فإنّ البداء الذي تقول به الشيعة الإماميّة، هو من الإبداء (الإظهار) حقيقة» «2».

«ثمّ إنّ البداء الّذي تقول به الشيعة الإمامية إنّما يقع في القضاء غير المحتوم، أمّا المحتوم منه فلا يتخلّف، ولا بدّ من أن تتعلق المشيّة بما تعلق به القضاء.

وتوضيح ذلك: إنّ القضاء علي ثلاثة أقسام:

الأوّل: قضاء اللَّه الذي لم يطلع عليه أحداً من خلقه، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه، ولا ريب في أنّ البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام، أنّ البداء إنّما ينشأ من هذا العلم».

الثاني: قضاء اللَّه الذي أخبر نبيّه وملائكته، بأنّه سيقع حتماً، ولا ريب في أنّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء وإن افترق عن القسم الأوّل،

__________________________________________________

(1) سورة الرّعد، الآية: 39.

(2) البيان في تفسير القرآن: 393.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 51

الثّالث: إنّ البشر فيه استعداد للكمال، وأن يترقي من حضيض الجهل

إلي أوج المعرفة، فيلزم بعث الرّسل ليرشدوهم إلي المعارف الإلهيّة بحسب الطّاقة البشريّة، ويأخذ كلّ منهم نصيبه علي قدر استعداده، ولولا بعث الرّسل لزم تضييع هذه القابليّات، التي تسأل المبدأ الفيّاض بلسان حالها في استكمالها، ليصير ما بالقوة فعليّاً، ومن المعلوم إنّ عدم الإفاضة مع تماميّة المادّة القابلة، يلازم النقص

بأنّ البداء لا ينشأ منه.

الثالث: قضاء اللَّه الذي أخبر نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وملائكته بوقوعه في الخارج، إلّاأنّه موقوف علي أن لا تتعلّق مشيئة اللَّه بخلافه.

وهذا القسم، هو الذي يقع فيه البداء: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» «1»

، «لِلَّهِ اْلأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» «2»

وقد دلّت علي ذلك روايات كثيرة من الشّيعة والسنّة» «3»، «والبداء إنّما يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات، والإلتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلي اللَّه سبحانه، وليس في هذا الإلتزام ما ينافي

__________________________________________________

(1) سورة الرّعد، الآية: 39.

(2) سورة الرّوم، الآية: 4.

(3) البيان في تفسير القرآن: 386- 388.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 52

في المفيض من عجزٍ أو بخلٍ أو جهلٍ، تعالي اللَّه عن ذلك كلّه علوّاً كبيراً.

الرّابع: إنّ في البشر قُوي متعدّدة، أحدها العقل، والباقي هي القوي الحيوانيّة من الشهويّة والغضبيّة بما لهما من شّئونٍ كثيرة وتوابع غير حصيرة، ولولا بعث الرّسل ليقوموا بتنوير عقولهم وتربيتهم وإرشادهم إلي الخير والصّلاح، لاتّبعوا القوي الحيوانيّة، ولم يكن ما لهم من العقل الفطري الأوّلي رادعاً وزاجراً، ولا مدركاً لتبعات ما يرتكبون في نشأتهم هذه، ولا في النشأة الأخري، وعند ذلك كان يختلّ النّظام أشدّ اختلال، ولهلك الحرث والنّسل، ولزم نقض الغرض من إيجاد النشأتين [1].

عظمته وجلاله «1»» «2».

[1] والعقول تتفاوت وتتناقض في تقييم الحقائق والحكم علي

الأشياء، فقد يستحسن بعضها ما يستقبحه الآخر، أو يستقبح ما

__________________________________________________

(1) نفس المصدر: 391.

(2) راجع أوائل المقالات: 327- 329، ومجمع البحرين: 1/ 167- 168، و 2/ 98 و 562، وراجع للتفصيل: سفينة البحار، وأجوبة مسائل جار اللَّه للسيد شرف الدين، ونقض الوشيعة للسيد محسن الأمين، والإمامة الكبري للسيد محمد حسن القزويني الحائري، والبيان للسيد الخوئي، والشيعة والتشيع للشيخ محمد جواد مغنية، وعقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر، والشيعة والسنة في الميزان للشيخ سلمان الخاقاني.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 53

يستحسنه غيره، حسبك في ذلك ما شاع في هذا العصر من صنوف النظم والمبادي ء، كالديمقراطية والدكتاتورية والرأسمالية والشيوعية، فإنّها تمثل تناقض العقول، واختلاف مقاييسها في الحسن والقبح والخير والشرّ، وطالما ضلّت العقول، وانخدعت بالتقاليد الخرافية، والأعراف المقيتة، ففي الهند مثلًا قبائل تعمد علي حرق موتاها بالنار وذرّهم بالهواء، معتبرة ذلك من مظاهر توقير الميت وتكريمه، وفيها قبائل أخري تستحسن دفن المرأة الحية مع جثمان زوجها في قبر واحد، وهناك قوم آخرون ارتكست عقولهم إلي الدرك الأسفل من الغباء والإختلال، فغدوا يقدّسون الأبقار ويعبدونها ويتبرّكون بأبوابها، والعقل بعد هذا وذاك محدود القدرة والمكنة، فهو عاجز عن استقراء تجارب البشر وأحداث الحياة وأطوارها، عبر العصور الحاضرة والغابرة والآتية، ليخطط علي ضوئها دستوراً كاملًا شاملًا يسعد البشرية ويحقق السكينة والرخاء، وليس في وسع العقل ومقدوره أن يستطلع حقائق الآخرة، وما يحدث فيها من مفاهيم الحساب والثواب والعقاب، وصور السعادة والشقاء، لوهنه وعجزه عن ذلك، والعقل أشبه ما يكون بالبصر في طاقته وأبعاد مرآه، فكما يستطيع البصر إدراك المرئيّات المحدودة بأمد معيّن، ويرتدّ عاجزاً كليلًا عمّا تجاوزه ونأي عنه، كذلك

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 54

أمّا الوجه الثالث أعني معني الأمّي وما قيل

فيه، فنقول:

ذهب جماعة إلي أنّ معني الأمّي من لا يكتب ولا يقرأ، نسبةً إلي الأمّ، لأنّه كيوم ولادته من أمّه، فإنّ العرب كانوا أمّةً أُميّين. وهذا المعني هو الشّايع في الألسن في معني الأمّي.

وذهب آخرون: إلي أنّ المراد المنسوبون إلي مكّة، أي بعث في أهل مكّة، لأنّ مكّة تسمي «أُمَّ الْقُري » «1»

، وفي النسبة يحذف جزؤه الثاني.

وروي القمي عن الصّادق عليه السّلام في الأميّين، قال عليه السّلام: «كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند اللَّه ولا بعث إليهم رسولًا، فنسبهم اللَّه إلي الأميّين» «2»، وهذا معني ثالث للأمّي.

وأمّا الوجه الرابع: أي علّة البعث في الأميّين دون غيرهم، يمكن أن يقال: إنْ أخذ الأمّي بالمعني الأوّل، فمن لا يقرأ ولا يكتب

العقل يستطيع إستجلاء الحقائق الداخلة في إطار قدرته وآماد وسعه، ويقصر عمّا وراء ذلك، وكما يستكشف المرأي الشاسع البعيد بالنواظير المقربة ويري واضحاً جلياً، كذلك العقل يستجلي ويستكشف ما قصر

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام، الآية: 92، وسورة الشوري، الآية 7.

(2) تفسير القمي 2/ 366.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 55

هو أحوج إلي المرشد والهادي ممّن يقرأ ويكتب، لأنّه يمكن الهداية في حقّه ولو إجمالًا بقرائة الكتب السّماوية والعمل بها، بخلاف من لا يقرأ ولا يكتب، فإنّه بعيد عن الهداية غاية البعد. ويمكن أن يكون من علله إظهار لطفه تعالي، بأنّه لطيف غاية اللطف، لملاحظة حال الجهّال فكيف بالعلماء [1].

وإنْ أخذ بالمعني الثاني، أي المنسوبون إلي أمّ القري وهم أهل مكّة، فالعلّة أوضح، لأنّ مكّة كانت مرجعاً للخلائق يقصدونه ويأتون من كلّ فجّ عميق ومكان بعيد، فكون الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله فيها أقرب إلي انتشار الأحكام من كونه في بلد بعيد ليس معبراً ولا مقصداً.

عن وعيه وادراكه بالإستهداء بالأنبياء عليهم

السّلام والإستعانة بهم علي ذلك، وهذا برهان صارخ علي افتقار العقول إلي هدي الأنبياء عليهم السّلام وعجزها عن الإستقلال بهداية البشر «1».

[1] قال المراغي: وتخصيص الأميّين بالذكر، لا يدلّ علي أنّه لم يرسل إلي غيرهم، فقد جاء العموم في آيات أخري كقوله: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعالَمينَ» «2»

وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنّي رَسُولُ

__________________________________________________

(1) أصول العقيدة للسيد مهدي الصّدر 2/ 24.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 107.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 56

وممّا ذكر، ظهر علّة البعث فيهم إن أخذ بالمعني الثالث، أعني ما تضمّنه الحديث في معني الأمّي.

وأمّا الوجه الخامس: وهو سبب كون الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله منهم، حيث أنّ الضمير لوحظ فيه معني الأمية [1]، لأنّ المراد كونه من جنس البشر، لبعده عن توهّم استعانته علي ما أتي من الشرايع والإعجاز بالكتب السابقة، لأنّه لو لم يكن منهم لأمكن أن يقولوا بأنّ إخباره عن الأمم الخالية والسنين الماضية مأخوذة عن الكتب السماوية، فكونه منهم أدلّ دليل وبرهان ومعجزة، بأنّه مبعوث من قبل اللَّه تعالي، لظهور أنّ الأمّي- علي جميع التفاسير السابقة،

اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَميعًا» «1»

وقوله: «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» «2» «3».

[1] قال الشيخ الطوسي قدّس سره: إنّ (الأميّة) في النّبي صلّي اللَّه عليه وآله فضيلة، وفي غيره نقيصة، لأنّ النبي عليه السّلام كان يخبر عن اللَّه إخبار الأنبياء، فإذا كان أمّياً كان أبلغ لمعجزته وأدلّ علي نبوّته، لأنّه يخبر عن اللَّه تعالي، قال اللَّه: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ

__________________________________________________

(1) سورة الأعراف، الآية: 158.

(2) سورة الأنعام، الآية: 19.

(3) تفسير المراغي 28/ 95.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 57

سواء أخذ بمعني من لا يقرأ ولا يكتب، أو المنسوب إلي أمّ القري، أو الذي لم يكن معه كتاب

من عند اللَّه ولا بعث إليه رسول- لا يقدر علي خوارق العادة من الفصاحة البالغة حدّ النهاية، والقوانين المتقنة غاية الإتقان، والإخبار عن الأمم السّالفة.

أمّا إنْ أخذ الأمّي بالمعني الأوّل، أي غير العارف بالقراءة والكتابة فظاهر، كما مرّ من أنّ غير القاري ء لا يتمكّن من قرائة الكتب السّالفة حتي تعينه علي الإخبار عن الأمم السّابقة والقرون الماضية، وغير الكاتب لا يقدر علي المكاتبة إلي البلدان العلميّة، ليستفيد منها الأخبار.

ولا يخفي أنّه لا منافاة بين كونه صلّي اللَّه عليه وآله أمّياً- بمعني عدم عرفانه للقرائة والكتابة- وبين الرّواية المرويّة في العلل

وَلا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» «1»

يعني أنّ المبطل يرتاب لو كان يكتب، فلهذا كان فضيلة وليس كذلك غيره، لأنّه إذا لم يكتب كان نقصاً فيه … والذي يقتضيه مذهبنا …

أنّ النّبي عليه وآله السّلام عندنا كان يحسن الكتابة بعد النبوّة، وإنّما لم يحسنها قبل البعثة «2».

__________________________________________________

(1)

سورة العنكبوت، الآية: 48.

(2) المبسوط في فقه الإمامية 8/ 119، كتاب آداب القضاء.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 58

عن الجواد عليه السّلام المتضمّنة لتكذيب من قال بأنّ سبب تسمية النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أمّياً، أنّه لم يحسن أن يكتب [1]، لأنّ المراد بالأوّل أنّه لا يعرف الكتابة والقرائة عن منشأ التعلم بالأسباب الظاهرية، فيكون من حيث عدم التعلّم بالأسباب الظّاهرية كيوم ولدته

[1] عن جعفر بن محمّد الصوفي قال: «سألت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا عليهما السّلام فقلت: يابن رسول اللَّه، لِمَ سمّي النّبي الأمّي؟

قال: ما يقول الناس؟ قلت: يزعمون أنّه إنّما سمّي الأمي لأنّه لم يحسن أن يكتب، فقال عليه السّلام كذبوا عليهم لعنة اللَّه، أني ذلك واللَّه يقول في محكم كتابه «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا

عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن، واللَّه لقد كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقرأ ويكتب باثنتين وسبعين أو قال بثلاثة وسبعين، أو قال بثلاثة وسبعين لساناً، وإنّما سمّي الأمي لأنّه كان من أهل مكّة، ومكّة من أمّهات القري، وذلك قول اللَّه عز وجل «وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُري وَمَنْ حَوْلَها» «1».

وعن عليّ بن أسباط وغيره رفعه عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

قلت إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لم يكتب

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام، الآية: 92، وسورة الشوري، الآية: 7.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 59

أمّه والرواية متضمّنة لقدرته حالًا عن أيّ سبب كان، لأنّه عليه السّلام في مقام ردّ من قال بعدم قدرته صلّي اللَّه عليه وآله، وأنّه صلّي اللَّه عليه وآله لم يحسن الكتابة، كما عرفت.

وتسميته بالأمّي بالمعني الثّاني لكونه من أهل مكّة المتعرّض له في الحديث أيضاً، غير مناف، لأنّه مقابل للأمّي بمعني عدم القدرة وعدم التعلّم بالأسباب الظّاهرية.

وأمّا القدرة علي ما ذكر من الإعجاز وغيره، إنْ أخذ بمعني المنسوب إلي أمّ القري، فلأنّ أهل مكّة كانوا في غاية الجهل والضّلالة في ذلك الزمان، فلا يمكن أن يكون أحدهم عالماً بهذه المثابة الخارجة عن قدرة البشر وعن طرق العلماء، فكيف بالجهلاء، إلّا أن يكون مربوطاً بالعالم العلوي.

ولا يقرأ، فقال عليه السّلام: «كذبوا لعنهم اللَّه، أنّي يكون ذلك، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» فكيف يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب؟ قال: قلت فلم سمّي النبي الأمّي؟ قال: لأنّه نسب إلي مكّة وذلك قول

اللَّه عزّ وجلّ «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُري وَمَنْ حَوْلَها» فأمّ القري مكّة، فقيل أمّي لذلك «1».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع 1/ 124.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 60

وأمّا إنْ أخذ بالمعني الثالث، فظاهر من المعني الثاني، فإن كونه في مكّة مستلزم لعدم العلم مع الحالة التي عليها أهلها.

وقد ظهر من هذه الوجوه، وجه إرتباط الآية بما قبلها، فإنّ من يفعل مثل هذه الأمور هو الحكيم المطلق، وغيره لا يقدر علي مثلها، فتكون هذه الآية بمنزلة البرهان الإنّي [1] للآية المتقدمة، كما هو ظاهر، ولا يخفي لطفه.

«يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» [2].

[1] البرهان إمّا لميّ، وهو ما ينتقل فيه من العلّة إلي المعلول، وإمّا إني، وهو ما ينتقل فيه من المعلول إلي العلّة، فالآية تكون برهاناً إنّياً، علي أنّه سبحانه ملك وحكيم علي الإطلاق.

[2] قال العلّامة الطباطبائي: وليس الحقّ إلّاالرأي والإعتقاد الذي يطابقه الواقع ويلازمه الرشد من غير غيّ، وهذا هو الحكمة. الرأي الذي أحكم في صدقه فلا يتخلله كذب، وفي نفعه فلا يعقبه ضرر، وقد أشار تعالي إلي اشتمال الدّعوة علي الحكمة بقوله: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» «1»

ووصف كلّاً من المنزل به، فقال: «وَالْقُرْآنِ الْحَكيمِ» «2»،

__________________________________________________

(1) سوره النساء الاية 113.

(2) سوره يس الاية 2.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 61

الظّاهر: إنّ الآيات هي التي من شأن الرّسول أن توحي إليه، فكان صلّي اللَّه عليه وآله يتلوها عليهم. ويمكن أن يراد بتلاوة الآيات إرائتهم علامات اللَّه الدّالة علي وجوده سبحانه، واستجماعه للصّفات الجلاليّة والجماليّة، لأنّ الأشياء كما تقدّم كلّها مداليل علي اللَّه، تدلّ علي مالكيّته وتنزّهه وعزّته وحكمته.

ثمّ يمكن أن يكون المراد من قوله تعالي «وَيُزَكِّيهِمْ» [1] أي عن الشّرك والإلحاد

والجهل.

وعدّ رسوله، صلّي اللَّه عليه وآله، معلّماً للحكمة في مواضع من كلامه كقوله «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» «1»

، فالتعليم القرآني الذي تصدّاه الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، المبيّن لما نزل من عند اللَّه من تعليم الحكمة، وشأنه بيان ما هو الحقّ في أصول الإعتقادات الباطلة الخرافية التي دبت في أفهام الناس من تصور عالم الوجود وحقيقة الإنسان الذي هو جزء منه … «2»

[1] قدّم التزكية هيهنا علي تعليم الكتاب والحكمة، بخلاف ما في

__________________________________________________

(1) سورة الجمعة، الآية: 2.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 313.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 62

«وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» [1] النازل عن اللَّه، أو ما كتب عليهم من الأحكام الثابتة في الشريعة.

«وَالْحِكْمَةَ» أي الأخلاق الإنسانيّة، وقد اندرجت في هذه الكلمة المباركة جميع الحكم التي هي للأنسان في نفسه من مكرمات الفضائل وماله في المجتمع المدني من التدابير الصالحة القيّمة، فإنّ

دعوة: ابراهيم عليه السّلام «1». لأنّ هذه الآية تصف تربيته صلّي اللَّه عليه وآله لمؤمني أمّته، والتّزكية مقدّمة في مقام التّربية علي تعليم العلوم الحقّة والمعارف الحقيقية، وأمّا ما في دعوة إبراهيم عليه السّلام، فإنّها دعاء وسؤال أن يتحقّق في ذريّته هذه الزكاة والعلم بالكتاب والحكمة، والعلوم والمعارف أقدم مرتبةً وأرفع درجةً في مرحلة التحقق، والإتّصاف من الزكاة، الرّاجعة إلي الأعمال والأخلاق «2».

[1] عن ابن عباس قال: «الكتاب: القرآن، والحكمة: ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة البقرة، الآية: 129 في قوله تعالي: «رَبَّنا وَابْعَثْ فيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ».

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 306.

(3) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 2/ 253.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 63

الحكمة- كما قدّمناه- تشمل النظريّة والعمليّة [1].

[1] قال صدر المتألهين: أمور ثلاثة:

الأوّل: في

الحكمة العمليّة، المبيّنة للأفعال والأعمال، الشارحة للأخلاق والآداب، المفيدة للعبد قطع تعلّقه عن الأسباب، وترك التفاته إلي الدنيا وما فيها، ورفع الغشاوات والحجب عن وجه قلبه بالكليّة.

وهذه الأحكام والأعمال العمليّة والمعالم الأدبيّة تثبت في القرآن علي أبلغ وجه وآكده، كما أشار إليه صلّي اللَّه عليه وآله بقوله: «أدّبني ربّي، فأحسن تأديبي» «1».

الثّاني: في الحكمة العلميّة، والمعارف الّتي يبلغ إليه عقول العلماء والحكماء بقوّتهم الفكرية، بتعليم الأنبياء والأولياء عليهم السّلام إيّاهم.

وهذان القسمان من العلوم والمعارف الّتي يقع فيها الإشتراك لساير الكتب السماوية مع القرآن، لكن يكون ما في القرآن أوثقها برهاناً وأجلّها شأناً، وأرفعها رتبةً، وأعلاها مأخذاً، وأقومها غايةً، وإليه الإشارة بقوله تعالي «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ» «2»

وبقوله

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 5/ 333، والجامع الصغير 1/ 14، وبحار الأنوار 16/ 210.

(2) سورة الإسراء، الآية 9.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 64

«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «1»

وقوله تعالي «وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» «2».

الثّالث: في الحكمة الّتي لا يبلغ إلي طورها إلّاالخلّص من أحبّاء اللَّه وأوليائه الصالحين، وهي المشار إليها في قوله «سَنُريهِمْ آياتِنا فِي اْلآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلي كُلِّ شَيْ ءٍ شَهيدٌ» «3»

وهذه الحكمة من خواصّ المحبوبين للَّه، كما أنّ الحكمتين الأوليين من خواص المحبّين للَّه. وإليهم الإشارة في قوله تعالي «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «4».

وفي الحديث الإلهي: «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّي أحببته» «5» «6».

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «قال اللَّه عزّ وجلّ ما زال العبد

__________________________________________________

(1) سورة النساء، الآية: 26.

(2) سورة الصّف، الآية: 6.

(3) سورة فصّلت، الآية: 53.

(4) سورة المائدة، الآية: 54.

(5) التوحيد: 400.

(6) تفسير صدر الدين الشيرازي

7/ 157- 158.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 65

ويرد هنا ما قلناه في تفسير الآية السّابقة، في كونه دليلًا وحجّةً للرّسالة والبعث، فإنّ من كان بحسب الظاهر في الجهّال ولم يكن عنده عالم يسأل عنه، لا يقدر علي الأمور الثلاثة، إلّاأن يكون رسولًا مبعوثاً من قبل اللَّه تعالي حتّي يتمكّن من ذلك، كما هو ظاهر.

وقوله تعالي «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» إن مخففّة عن المثقّلة وبمثابة: ولقد كانوا من قبل كذلك. والآية بيان لشدّة إحتياجهم إلي الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، وقد اقتضي بعثه إليهم العزّة والحكمة السابقتان في الآية السابقة.

«وَآخَرينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ* ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ». «وَآخَرينَ مِنْهُمْ» [1] عطف علي الأميّين، فيكون المعني: بعث

يتقرّب إليّ بالنوافل حتّي أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش به، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني أعطيته، وإن استعاذني أعذته» «1».

[1] في تفسير القمي: دخلوا في الإسلام بعدهم «2».

__________________________________________________

(1) مجموعة الأخبار في نفائس الآثار، للشيخ النمازي، والكافي 2/ 352، الرّقم 7، باختلاف يسير.

(2) تفسير القمّي: 366.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 66

في الأميين. وآخرين أي الّذين لم يكونوا منسوبين إلي أمّ القري، أو لم يكونوا لا يعرفون القرائة والكتابة، أو غير المبعوث إليهم نبيّ، أو من كان في أصلاب هؤلاء، كما في بعض الرّوايات النبويّة، أو من كان من غير العرب كالفرس، كما في الروايات الآخر، علي اختلاف الأقوال، أو عطف علي ضمير «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ».

ولا يخفي ما في هذه الآية من اللّطف، حيث أنّه لو لم يذكر «وَآخَرينَ» لتوهّم إختصاص رسالة النّبي بقوم أو بمكان خاصّ، لظاهر الآية السابقة، فكان قوله «وَآخَرينَ»

إستدراكاً، ومن هنا ظهر ربط هذه الآية بسابقها. والسرّ في ذكر كلمة «منهم» علي بعض الأقوال واضح، وعلي الأقوال الأخر هو صيرورتهم منهم، أي مؤمنين لو أسلموا، فإنّ المؤمنين بعضهم من بعض [1] واللَّه العالم.

«لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» أي بعد لم يلحقوا بهم، فإنّ (لمّا) لانتظار الوقوع، وليس المراد عدم لحوق الآخرين في الفضيلة بهم لكونهم أدركوا صحبة النبي صلّي اللَّه عليه وآله، لظهور أنّ الفضل ليس

[1] قال صلّي اللَّه عليه وآله: «المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكي تداعي عليه سائر جسده» «1».

__________________________________________________

(1) البحار 20/ 127.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 67

بذلك بل بالأيمان والتّقي، أي ليس بالمصاحبة البدنيّة بل بالمصاحبة الرّوحية والنّفسية، فإنّ الأكرم عند اللَّه هو الأتقي، فالآخرون علي الأظهر هم غير العرب الأميّين من سائر العرب والعجم في ذلك الزّمان وفي ما يأتي من بعد الصّحابة إلي يوم القيامة، لأنّ نبوّته عامة كما ذكر، لا تختص بقوم دون قوم أو زمان دون زمان.

وأمّا ما رُوِيَ عن أبي جعفر عليه السّلام عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله، أنّه صلّي اللَّه عليه وآله قرأ هذه الآية، فقيل له: من هؤلاء؟

فوضع يده علي كتف سلمان وقال: لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء [1]، فالظّاهر أنه تعيين للمصداق ولم يرد الإنحصار في المشار إليهم في الرواية، فلا ينافي نبوّته العامة ولا يتوهم ذلك.

وفيه إشارة إلي عدم استغناء العلماء عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله، وأنّه ليس بمبعوث إلي الأمّيين والجهال فقط، فإنّ من يستعد لأن ينال الإيمان ولو كان في الثريا، إنّما هو في غاية الفطنة وكمال الدّقة، ومع ذلك محتاج إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله.

[1] وكانوا أهلًا لذلك، ولهذا كتب رسول اللَّه صلّي اللَّه

عليه وآله لحيّ سلمان بكازرون عهداً وثيقاً للمؤبذه والهوانده وعشيرتهم وذراريهم: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد بن عبداللَّه

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 68

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله سأله الفارسي سلمان وصية بأخيه مهاد بن فرّخ بن مهيار، وأقاربه وأهل بيته وعقبه من بعده ما تناسلوا من أسلم منهم وأقام علي دينه.

سلام اللَّه وأحمد اللَّه إليكم: إنّ اللَّه تعالي أمرني أن أقول لا اله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، أقولها وآمر الناس بها، والخلق خلق اللَّه والأمر كلّه للَّه، خلقهم وأحياهم وأماتهم وهو ينشرهم وإليه المصير … وهذا كتابي أنّ لهم (لحيّ سلمان) ذمّة اللَّه وذمّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله علي دمائهم وأموالهم في الأرض التي أقاموا عليها، سهلها وجبلها وعيونها ومراعيها غير مظلومين ولا مضيق عليهم، فمن قري ء عليه كتابي هذا من جميع المؤمنين فليتحفّظهم ويبرهم ويحوطهم ويمنع الظّلم عنهم لا يتعرّض لهم بالأذي والمكاره، وقد رفعت عنهم جزا الناصية والجزية والخمس والعشر وسائر المؤن والكلف، فإن سألوكم، فأعطوهم، وإن استغاثوا بكم، فأغيثوهم، وإن استجاروا بكم فأجيروهم، وإن أساءوا فاغفروا لهم، وإن أسيي ء إليهم فامنعوا عنهم، وليعطوا من بيت المال في كلّ سنة مأة حلّة في شهر رجب، ومن الأواقي مأة في الأضحية وأيديهم طلقة علي بيوت النيران وضيائها وأموالها ولا

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 69

يمنعونهم من اللباس الفاخرة، والركوب وبناء الدور وحمل الجنائز وإتّخاذ ما يجدون في دينهم ويفضّلونهم علي سائر الملل من أهل الذمّة، فقد استحقّ سلمان ذلك من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ولأنّ فضل سلمان علي كثير من المؤمنين، وأنزل إليّ الوحي حقّ سلمان واجب علي جميع المؤمنين، وإنّ الجنة إلي سلمان أشوق

من سلمان إلي الجنّة، وسلمان منّا، فلا يخالفني أحد هذه الوصيّة فيما أمرت به، ومن خالف فقد خالف اللَّه ورسوله وعليه اللّعنة إلي يوم الدين، ومن أكرمهم فقد أكرمني، وله عند اللَّه خير وثواب، ومن آذاهم فقد آذاني وأنا خصمه يوم القيامة، جزائه جهنّم وبرئت ذمّتي والسّلام عليكم وليحيّيكم ربّكم.

كتب عليّ بن أبي طالب عليه أفضل الصّلاة والسّلام بأمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وبحضوره في رجب- سنة تسع الهجرة- شهد علي ذلك سلمان وأبوذر وعمّار وبلال والمقداد، وأعطاهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عهد مثل ما أعطاهم النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وكتبه حسين بن عليّ عليه السّلام في رجب سنة تسع وثلاثين من هجرة النبي صلّي اللَّه عليه وآله «1».

__________________________________________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب 1/ 97 وكلمة طيّبة: للميرزا النوري: 42 و 46.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 70

«وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ» فيه من البلاغة ما لا يخفي، فقد أقام العلّة مقام الإخبار بما سيكون حتي يستكشف به لميِّاً، وبمثابة أن يقال إنّ الآخرين سيلحقون بهم، لأنّه هو العزيز الحكيم، فإنّ العزّة تقتضي صدور النفع والخير، والحكمة تقتضي التربية والتكميل بالتدابير المناسبة. أو كأنّه برهان، لعطف الآخرين علي الأميّين، وصيرورتهم مثلهم في بعث الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله وشؤونه من التّزكية والتّعليم، فإنّهم محتاجون إلي المنحة الإلهيّة، كما قد احتاجوا أولئك، وإنّ بعث الرّسول من أجلّ المنح وأعظم المواهب، فالعزّة [1] والحكمة تقتضيان شمولها لهم كما شملهم.

ثمّ اعلم، أنّه لمّا كان المقام في معرض سؤال إنّ اللَّه لِمَ جعل

[1] قال نصير الدين الطّوسي قدّس سرّه: البعثة حسنة، لاشتمالها علي فوائد كمعاضدة العقل فيما يدلّ عليه، واستفادة الحكم فيما لا يدلّ العقل، وإزالة الخوف،

واستفادة الحسن، والقبح والمنافع، والمضارّ، وحفظ نوع الإنساني، وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة، وتعليمهم الصنائع الخفيّة، والأخلاق، والسياسات، والإخبار بالعقاب والثواب، فيحصل اللّطف للمكلّف «1».

__________________________________________________

(1) تجريد الإعتقاد بشرح العلّامة: 468.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 71

الرّسول في الأميّين وجعله منهم، ولِمَ اختصوا بهذه المنحة، ولِمَ اختص صلّي اللَّه عليه وآله من بينهم بهذه الكرامة؟ فناسبه الجواب بأنّ:

«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ» يعني:

إنّ فضل اللَّه ومنحته، يؤتيه من يشاء ويجعله في من يشاء، بمقتضي حكمته البالغة وفضله السّابق الكامل لا ينازع فيما يفعل [1].

«مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ

[1] قال صدر المتألّهين: تأمّل أيّها العارف، إنّ اللَّه تعالي ما أعطي لعباده إلّاالقليل من العلم، لقوله: «وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَليلًا» «1»

وسمّي الدّنيا بحذافيرها قليلًا: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَليلٌ» «2».

ثمّ قال في العلم الموهوب لعباده: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ» «3»

وقال أيضاً: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا» «4»

فانظر كم مقدار هذا القليل، حتّي تعرف عظمة ذلك العظيم الكثير «5».

__________________________________________________

(1)

سورة الإسراء، الآية: 85.

(2) سورة النساء، الآية 77.

(3) سورة المائدة، الآية 54.

(4) سورة البقرة، الآية: 269.

(5) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 167.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 72

أَسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ».

يقعُ الكلام في هذه الآية المباركة من وجوه عشرة:

الأوّل: الربط بين هذه الآية والآية المتقدّمة.

الثاني: سبب قوله تعالي «حُمِّلُوا» بلفظ الفعل المبني للمفعول دون حَمَلُوا.

الثالث: وجه اختصاص المثل باليهود، أعني أهل التوراة، دون غيرهم مع مشاركة غيرهم معهم في الكفر.

الرابع: علّة العطف بثُمّ، الدالة علي التّراخي، دون غيرها من حروف العطف كالواو والفاء.

الخامس: سبب قوله «لَمْ يَحْمِلُوها» معلوماً لا مبنيّاً

للمفعول كالأوّل.

السادس: علّة التمثيل بالحمار دون غيره من الحيوانات.

السابع: سبب قوله «يحمل» معلوماً لا يحمل مجهول الفاعل، مع أنّه لا يَحمِل بل يُحمّل.

الثامن: وجه التعبير بقوله تعالي «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا».

مع كون المثل في أوّل الآية لليهود فقط، الّذين هم أهل التوراة، فلم يقل سبحانه وتعالي: بئس مثلهم، مع أنّه أخصر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 73

التاسع: معني التّكذيب وأقسامه وموارده.

العاشر: وجه قوله تعالي: الظالمين دون الضالين وغيره، كالفاسقين والكافرين وشبههما.

أمّا الوجه الأوّل، أعني وجه الرّبط، يمكن أن يقال: هو أنّه تعالي لما بيّن بعثته صلّي اللَّه عليه وآله إلي الجميع، وأنّه مبعوث إلي الأميّين وآخرين، أعرب عن لزوم اتباع الكلّ له صلّي اللَّه عليه وآله، لظهور إنّ كلام المولي للعبيد مثلًا: (بعثت إليكم الرجل الفلاني لإبلاغ أوامري وإجراء أحكامي) مستلزم لأمره لهم باتباعه وقبول أوامره، وحيث أنّ كلّ من لم يتّبعه صلّي اللَّه عليه وآله، أو رفض اتباعه، يستحقّ التوبيخ، ذكر توبيخ الأمّة السّالفة، وهو في الحقيقة توبيخ لكلّ من كان كذلك، فإنّ التوبيخ كما يكون بالتصريح كذلك يكون بالإيماء، نظير: (إياك أعني واسمعي يا جارة).

ويمكن التّقريب بنحو آخر: إنّ قوله «مَثَلُ الَّذينَ … »، بمثابة الجواب عن سؤال مقدّر، هو أنّه لم لا يؤمن اليهود بهذا النّبي المبعوث للأميّين والآخرين؟ فكان الجواب: إن التّبشير ببعثه وإن كان في التّوراة مذكوراً [1] لكن مثلهم مثل الحمار، بعد أن لم يحملوا ما حملوه.

[1] التّوراة التي بين أيدينا، بشّرت بمجي ء نبيّنا محمّد صلّي اللَّه

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 74

وهناك تقريب ثالث، سيأتي في الوجه الثالث.

عليه وآله، فقد جاء في سفر التثنية: (يقيم لك الرّب إلهك نبيّاً من وسطك من أخوتك مثلي له تسمعون حسب كلّ ما

طلبت من الرّب إلهك في حوريب يوم الإجتماع قائلًا: لا أعود أسمع صوت الرّب، إلهي ولا أري هذه النار العظمية أيضاً لئلّا أموت، قال لي الرّب: قد أحسنوا في ما يكلّموا، أقيم لهم نبيّاً من وسط إخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به، ويكون إنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه، وأمّا النّبي الّذي يطغي، فيتكلّم باسمي كلاماً لم أوصه إن يتكلم به، أو الذي يتكلّم باسم آلهة أخري فيموت ذلك النّبي، وإن قلت في قلبك:

كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرّب، فما تكلّم به النّبي باسم الرّب ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرّب، بل بطغيان تكلّم به النبي فلا تخف منه) «1».

وجملة (يقيم لك الرب إلهك نبيّاً من وسطك من إخوتك) دليل علي أنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله من ولد إسماعيل عليه السّلام وموسي من ولد أخيه، وإنّ اللَّه بشّر إبراهيم بأنّ إسماعيل وذريته

__________________________________________________

(1) سفر التثنية، الإصحاح 18/ 337.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 75

وأمّا الوجه الثاني، وهو سبب قوله تعالي «حُمِّلُوا» بلفظ المبنيّ للمفعول دون حَملُوا معلوماً: فيمكن أن يكون بياناً وإظهاراً للجاجتهم وعنادهم، وإنّهم ما قبلوا أحكامها إلّابإرائتهم الآيات المخوفة، كنتق الطود فوقهم [1]، كما هو المعلوم من حالهم، مع

يكونون أنبياء «1».

[1] قال اللَّه تعالي: «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «2»

. ولمّا رجع موسي عليه السّلام من الطور فأتي بالألواح، فقال لقومه جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها، قالوا: ومن يقبل قولك؟ فأرسل اللَّه عزّ وجلّ الملائكة حتّي نتقوا جبل الطّور

العظيم فوق رؤوس بني إسرائيل وكانوا فرسخاً في فرسخ، فرفع اللَّه الجبل فوق رؤوس جميعهم «كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» أي غمامة، فقال لهم موسي عليه السّلام إن قبلتم ما آتيتكم به وإلّا أرسل الجبل عليكم «وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» أي علموا وأيقنوا فأخذوا التّوراة وسجدوا للَّه تعالي ملاحظين إلي الجبل، فمِن ثَمّ يسجد اليهود علي أحد شقيّ وجوههم «وَاذْكُرُوا ما

__________________________________________________

(1) سفر التكوين، الإصحاح 17/ 236، وقاموس الكتاب المقدس «اسمعيل»: 16.

(2) سورة الأعراف، الآية: 171.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 76

موسي علي نبيّنا وآله وعليه السّلام المتواتر في الأخبار، فكأن أحكام التوراة حُمّلت عليهم بالقهر والإجبار، لا أنّهم حملوها بالطوع والإختيار [1]. كما يمكن أن يكون بياناً لمشقّة تلك الأحكام في

فيهِ» أي إحفظوا ما في التوراة من الحلال والحرام، ولا تنسوا من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما في التوراة «1».

[1] إنّ التّوراة الموجودة لدي اليهود، ليست توراة موسي عليه السّلام بل وجدت في زمن ملك (يوشيا) إبن آمون سنة 609 قبل المسيح، وكان الملك مؤمناً وهو الذي طهر يهوذا واورشليم من معابد الشرك.

قال (حلقيا) الكاهن العظيم رئيس الكهنة (لشافان) الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرّب وأخبر شافان الكاتب الملك قائلًا قد أعطاني حلقيا الكاهن سفرا، وقرأه شافان أمام الملك، فلمّا سمع الملك كلام سفر الشريعة فرق ثيابه، وأمر الملك حلقيا وجماعة من خواصّه قائلًا إذهبوا إسألوا الرّب لأجلي ولأجل الشعب ولأجل كلّ يهوذا من جهة كلام هذا السفر الذي وجد، لأنّه عظيم هو غضب الرّب الذي اشتغل علينا من أجل إن آبائنا لم يسمعوا لكلام هذا السفر، ليعلموا

__________________________________________________

(1) راجع مجمع البيان، سورة البقرة، ذيل الآية 63، وسورة آل عمران، الآية 171.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 77

نفسها، فإنّها كانت

في غاية الصّعوبة [1] إذا قيست بأحكام الإسلام، كما هو ظاهر.

حسب كلّ ما هو مكتوب علينا …

وجاء في الإصحاح: «وأرسل الملك، فجمعوا إليه كلّ شيوخ يهوذا واورشليم، وصعد الملك إلي بيت الرّب، وجمع رجال يهوذا وكلّ سكان أورشليم معه والكهنة والأنبياء وكلّ الشعب من الصغير إلي الكبير، وقرأ في آذانهم كلّ كلام سفر الشريعة الذي وجد في بيت الرّب، ووقف الملك علي المنبر وقطع عهدا امام الرّب للذهاب وراء الرّب، ولحفظ وصاياه وشهاداته وفرائضه بكلّ القلب وكلّ النفس لإقامة كلام هذا العهد المكتوب في هذا السفر، ووقف جميع الشعب عند العهد … «1».

[1] قال اللَّه تعالي: «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا» «2»

. «وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا» أي لا تحمل علينا عملًا

__________________________________________________

(1) يحتمل أنّ السفر الذي وجده حلقيا كان سفر التثنية، راجع الكتاب المقدس، الملوك- الثاني الإصحاح 21/ 483 وقاموس الكتاب المقدس: 328، 972، والهدي إلي دين المصطفي 1، المقدّمة الخامسة، والرحلة المدرسية: 119 لفقيد الإسلام الشيخ البلاغي قدّس سرّه.

(2) سورة البقرة، الآية: 286.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 78

ويحتمل أن يكون التعبير به، لكونه تكليفاً وهو خلاف الطّبع مهما يكن سهلًا، إذ التكليف مشتق من الكلفة أي المشقّة، فتوجيهه إلي المكلّف تحميل.

وأمّا الوجه الثالث، أعني وجه اختصاص المثل باليهود، فنقول:

إنّ التوبيخ علي نوعين:

نعجز عن القيام به، ولا تعذّبنا بتركه ونقضه، أو ولا تحمل علينا ثقلًا من الشدائد والتكاليف الشاقة «كَما حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا» مثل بني إسرائيل حيث كلّفوا بتكاليف شاقة، منها: 1- قتل أنفسهم 2- يتيهون أربعين سنة في التيه، 3- فرض خمسين صلاة في خمسين وقت 4- وإذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها، وكتبت ذنوبهم علي أبوابهم، وحرم عليهم

بسببها ما أحلّ لهم من الطعام، كما قال اللَّه تعالي «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» «1»

5- وأخذ عليهم من العهود والمواثيق 6- كلفوا من انواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمّة تخفيفاً عنها «2».

__________________________________________________

(1)

سورة النساء، الآية: 160.

(2) التبيان في تفسير القرآن 3/ 543- 544، مجمع البيان 1/ 519- 520، والصّافي 1/ 288 والميزان في تفسير القرآن 2/ 475.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 79

الأوّل: أنّ يوبخ الشخص بفعله القبيح من دون ذكر برهان قبحه، كأن يقول مثلًا: تسجد لغير اللَّه تعالي، أو تعبد الأوثان، أولا تؤمن بالمبعوث من قبل اللَّه، وأمثالها، ممّا يوبخ المخاطب من دون برهان قبحه.

والثّاني: التوبيخ مع ذكر البرهان وإقامة الحجّة علي قبحه، كقولك للمريض: أما رأيت فلاناً لم يعمل بقول الطبيب فهلك، أو مثلك مثل فلان الذي لم يعمل بعلمه فاخترم. فبرهان القبح فيهما الهلاك والإخترام المذكوران في الكلام، ومعلوم أنّ الأسلوب الثاني أحسن وأبلغ، والآية منه، لأنّها- كما قيل- توبيخ للنصاري الذين لم يؤمنوا بمحمّد صلّي اللَّه عليه وآله، فكأنّه يخاطبهم ويقول: أما رأيتم اليهود الّذين لم يعملوا بما اشتملت عليه التوراة من لزوم اتباع عيسي وإطاعة أوامره ونواهيه، وهلكوا باعتقادكم بسبب عدم اتباعه، فأنتم إن لم تؤمنوا بمحمّد صلّي اللَّه عليه وآله مَعَ اشتمال كتابكم علي لزوم اتّباعه، كنتم مثلهم في الهلاك.

وبهذا، لا ينافي كونها توبيخاً لليهود الحاضرين أيضاً، بل التوبيخ لليهود أقوي من التوبيخ للنّصاري، لظهور أنّ المشبّه به أقوي من المشبّه في وجه الشّبه، إلّافي التشبيه المقلوب وهذا ليس منه، فتدبّر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 80

وأمّا الوجه الرابع، وهو علّة العطف ب (ثمّ) في قوله تعالي «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» دون غيرها من أدوات العطف:

فللتراخي بين تحميلهم إيّاها وعدم حملهم لها، لأنّهم لم يحملوها في زمان متأخّر، حيث لم يأخذوا بما في التوراة من لزوم اتّباع النبي الذي بشر به فيها.

وأمّا الوجه الخامس، أي سبب قوله: لم يحملوا مبنيّاً للمعلوم لا كالأوّل: عدم حملهم بأنفسهم لا بجابر قاهر حتّي يصحّ مجهولًا، ومعني لم يحملوها أي تركوا العمل بها، أو غيّروها وحرّفوها، أو نحو ذلك. وكني عن ذلك بعدم الحمل وبالطعنة، كما لا يخفي، وهو تعبير لطيف جدّاً.

وأمّا الوجه السادس، أي وجه التمثيل بالحمار دون غيره من الحيوانات. فقيل: إنّه لإظهار كثرة الجهل والبلادة، فإنّ الحمار بليد غاية البلادة، وليس كذلك ساير الحيوانات. وقيل: لأنّ في الحمار من الذّل والحقارة مالا يكون في غيره.

والغرض من الكلام في هذا المقام: تعيير أولئك القوم وتحقيرهم، فيكون تعيين الحمار أليق وأولي [1]. مع ما فيه من

[1] قال الجاحظ: وذكر الحمار فقال «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا» فجعله مثلًا في الجهل والغفلة، وفي قلّة المعرفة وغلظ الطبيعة،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 81

ولم يقل إنّي مسخت أحداً من أعدائي حماراً «1».

وقال الدميري: أي بثقلة حملها ولا ينفعه وكلّ من يعلم ولم يعمل بعمله، فهذا مثله.

وفي الحديث: يؤتي بالرجل يوم القيامة، فيلقي في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار في الرحاء، فيطيف به أهل النور فيقولون مالك؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهي عن الشر وآتيه (فتندلق أقتاب بطنه أي تخرج أمعاء بطنه) «2».

وقال البستاني: كان الناس يضربون به المثل في البلاهة وقلّة الفهم «3».

وقال فريد وجدي: ومن عجيب أمره، أنّه إذا شمّ رائحة الأسد رمي نفسه عليه من شدّة الخوف، يريد بذلك الفرار منه «4».

وقال محمّد كاظم الملكي: من الأمثال: لا يأبي الكرامة

__________________________________________________

(1) كتاب الحيوان للجاحظ 4/ 38.

(2)

حياة الحيوان للدميري 1/ 252.

(3) دائرة المعارف للبستاني 7/ 162.

(4) دائرة المعارف لفريد وجدي 3/ 591.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 82

المناسبة اللفظية مع لفظ الأسفار [1].

إلّا الحمار «1».

قال المفضّل: أوّل من قاله أمير المؤمنين عليه السّلام وذلك أنّه دخل عليه رجلان، فرمي لهما بوسادتين، فقعد أحدهما علي الوسادة، ولم يقعد الآخر، فقال عليّ عليه السّلام: «أقعد علي الوسادة لا يأبي الكرامة إلّاالحمار، فقعد الرجل علي الوسادة» «2».

[1] قال المراغي: «يقول سبحانه ذامّاً لليهود الّذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، ثمّ لم يعملوا بها: ما مثل هؤلاء إلّاكمثل الحمار يحمل الكتب لا يدري ما فيها، ولكنّه ما يحمل، بل هم أسوأ حالًا من الحمر، لأنّ الحمر لا فهم لها، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم، إذ حرّفوا التوراة فأوّلوها وبدّلوها فهم، كما قال في الآية الأخري: «أُولئِكَ كَاْلأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» «3»» «4».

__________________________________________________

(1) المعجم الزوولوجي الحديث لمحمّد كاظم الملكي 2/ 535.

(2) وسائل الشيعة 8/ 489، باب كراهة إباء الكرامة، الرقم 1، وبحار الأنوار 41/ 53 باختلاف يسير.

(3) سورة الأعراف، الآية: 179.

(4) تفسير المراغي 28/ 98.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 83

وأمّا الوجه السابع، وهو علّة قول يحمل معلوماً مع أنّه يُحمّل:

فالأصل من لزوم الإسناد إلي الفاعل فيما لم يكن الفعل ذا وجهين كالأوّل، فإنّ حمل التوراة يكون بالإختيار تارةً وبالإكراه أخري، فلو قال تعالي حمّلوا التوراة لما فهم معني الإكراه فيه والحمل بغير الإختيار، فلزم الصرف عن الحامل فيه إلي المحمل، لعدم فوات النكتة. بخلافه هنا، فليس حمله ذا وجهين، بل في جميع الأوقات تحميل، ولهذا أسند إلي الفاعل الحقيقي.

وأمّا الوجه الثامن، أي وجه التعبير بقوله تعالي: «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ»

مع كونه في أوّل الآية لليهود، وكان يمكن التعبير بضمير يرجع إليهم ويكون أخصر: فلعلّه إفادة أنّ التوبيخ لا يختصّ باليهود، بل يشمل جميع المخالفين الذين لم يؤمنوا بمحمّد صلّي اللَّه عليه وآله، وكذّبوا بآيات اللَّه التي يتلوها عليهم، وإنّ مثلهم مثل اليهود، فكما أنّ اليهود ملومون بعدم اتّباعه مع ذكره صلّي اللَّه عليه وآله في كتابهم، فكذلك سائر المخالفين والمكذّبين.

وأمّا الوجه التاسع، وهو بيان معني التكذيب فنقول: التكذيب عبارة عن إسناد الكذب، أي عدم مطابقة الخبر للواقع، أو الإعتقاد علي الخلاف فيه إلي الغير، وهو عمليّ وقوليّ، فمصدره الأركان تارةً

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 84

واللسان أخري.

والعمليّ: هو، أنْ يعمل الشخص عملًا يخالف قول الآخر، ولهذا يقال: هلك مكذب قولك. والقولي هو: أن يقول كذبت أو كذب فلان، أو يقول ما ينافي قوله.

وعلي هذا، فالآية شاملة لجميع من يكذّب بآيات اللَّه، يهوديّاً كان أم نصرانياً أم مسلماً، فإنّ تارك الصلاة مثلًا مكذب للنّبي صلّي اللَّه عليه وآله عملًا، والمفتري مكذب له قولًا. اللّهمّ أعنّا علي العمل الصالح وثبّتنا بالقول الصّادق [1].

[1] قال آية اللَّه العظمي السيد أحمد الخونساري: أنكر اليهود نبوّة نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله، وقالوا بدوام شريعة موسي عليه السّلام قالوا:

إنّ النسخ باطل، لأنّ المنسوخ إن كان مصلحة يقبح النهي عنه، وإن كان مفسدة يقبح الأمر به، وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسي عليه السّلام.

والجواب: إنّ الأحكام منوطة بالمصالح، تتغيّر بتغيّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلّفين، والشاهد عليه وقوعه في شرعهم في مواضع، منها: إنّه قد جاء في التوراة إنّ اللَّه تعالي قال لآدم وحوّاء قد أبحت لكما كلّما دبّ علي وجه الأرض، وورد فيها أنّه تعالي قال لنوح

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص:

85

وأمّا الوجه العاشر، وهو سبب قوله «الظالمين» دون الضّالين ودون غيرها من الأوصاف: فلأنّ اللَّه تعالي هادي الضّالين بخلاف الظّالمين، فإنّ الظّالم من يظلم علي نفسه مع إتمام الحجّة عليه، فإنّ معني هدايته بعد إتمام الحجّة إجباره علي الهداية، وهو جلّ عن ذلك، لا يجبر أحداً علي شي ءٍ، كما برهن في محلّه. وغير الظلم من

عليه السّلام: خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا، فحرم علي نوح عليه السّلام بعض ما أباحه لآدم …

وتمسّك اليهود أيضاً بما روي عن موسي عليه السّلام إنّه قال تمسّكوا بالسبت أبداً، والتأبيد يدلّ علي الدوام، ودوام الشرع بالسبت ينافي القول بنبوّة محمّد صلّي اللَّه عليه وآله.

وأجيب بوجوه، الأوّل: إنّ هذا الحديث مختلق منسوب إلي ابن الراوندي.

الثاني: إنّ اليهود إنقطع تواترهم، لأنّ بخت النصر إستأصلهم حتّي لم يبق منهم من يوثق بنقله.

الثالث: إنّ التأبيد قد ورد في التوراة لغير الدوام، كما … أمروا في البقرة التي كلّفوا بذبحها أن يكون ذلك سُنّة أبداً، ثمّ انقطع تعبّدهم بها «1».

__________________________________________________

(1) العقائد الحقة: 17.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 86

الأوصاف، إمّا داخل تحت الظلم، فلا حاجة لذكرها، أو تحت الضّلالة فذكرها غير صحيح كما ذكر.

هذا ما في هذه الآية المباركة من الدقائق والنكات التي فهمناها، وإن لم يكن قطرة من بحار دقائقها وذرّة من فلوات حقائقها. وأمر التفسير اللفظي والإعراب الظاهري، موكول إلي التفاسير المتعرضة لهما.

إلفات نظر تجاه التفكير في قوله تعالي «مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا»:

إنّ الآية تعطينا درساً دينيّاً أخلاقيّاً علميّاً: هل التوراة لها خصوصيّة، أم اليهود لهم الخصوصية؟ كلّا، ويشهد لذلك أنّه سبحانه ذكر بعد ذلك «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» ولم يقل:

كذبوها، بل لم يقل بئس مثلهم، مع

أنّه كان أخصر وبالسبر والتقسيم يظهر:

إنّ ذلك صغري لكبري كليّة، وهي أنّ كلّ زعيم إذا قرّر قانوناً صحيحاً لتابعيه، وكلّ ناصح إذا ألقي نصيحة نافعة لُامّته، فانتحلوها ثمّ لم يقبلوها ولم يعملوا بها، فذلك مثلهم. فالأمّة الإسلامية إذا لم يعملوا بالقرآن، ولم يتخلّقوا بأخلاقه، ولم يتبصّروا بمعارفه، مثلهم كمثل الحمار، بل السنّة النّبويّة إذا لم يعمل بها بعد المعرفة بها كالقرآن، بل كلّ من أقرّ بالرسالة ولم يتمسّك بالثقلين [1] أو لم يف

[1] أشار قدّس سرّه إلي حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 87

بأجر الرسالة، وهي مودّة ذي القربي [1]، مثله كمثل الحمار.

«قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ». «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا» خطاب للنّبي أي: قل يا محمّد، لليهود الذين يفتخرون بكونهم أولياء اللَّه وأحبّائه في مقام الرّد عليهم وإبطال مدّعاهم.

واعلم أنّ وجه الربط بين هذه الآية والآية المتقدّمة، كونها في مقام إفحام اليهود، فكأنّ هذه الآية برهان علي بطلان مقالتهم في أنّهم

قال ابن حجر الهيتمي: «إعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً» «1».

[1] أشار قدّس سرّه إلي الآية الكريمة: «قُلْ لاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي » «2»

عن ابن عباس إنّ هذه الآيات لمّا نزلت، قالوا:

يا رسول اللَّه: من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال صلّي اللَّه عليه وآله، عليّ وفاطمة وابناهما … «3».

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة: 89.

(2) سورة الشوري، الآية: 23.

(3) الصواعق المحرقة: 101.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 88

أولياء اللَّه، وهذه الآية بمثابة المباهلة [1] معهم.

وقيل: إنّ اليهود كانوا يفتخرون علي العرب، بأنّ لهم رسولًا وعندهم الكتاب، وأنّهم أحباء اللَّه، وأنّ لهم

السبت. «1» فردّ اللَّه عليهم في هذه السّورة كلّها، فذكر فيها بعث الرّسول إليهم وتعليمه إيّاهم الكتاب والحكمة ردّاً للأمر الأوّل. و «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا» إلي قوله «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا» ردّاً للأمر الثاني. و «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا … »

المشعر بأنّ لهم الجمعة ردّاً للأمر الثالث.

[1] وهذه الآية شبيهة بآية المباهلة «فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَي الْكاذِبينَ» «2»

إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله لمّا دعا نصاري نجران إلي المباهلة، قالوا حتّي نرجع وننظر، فلمّا تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما تري؟

فقال: واللَّه لقد عرفتم يا معشر النصاري أنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله نبيّ مرسل ولقد جائكم بالفصل من أمر صاحبكم، واللَّه ما باهل قوم نبيّاً

__________________________________________________

(1) راجع تفسير الرازي 3/ 189، وتفسير ابن كثير 1/ 390- 391.

(2) سورة آل عمران، الآية: 61.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 89

قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لنهلكنّ، فإن أبيتم إلّا

إلف دينكم والإقامة علي ما أنتم عليه فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلي بلادكم، وغدا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله دعا عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فاحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما، وهو صلّي اللَّه عليه وآله يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النّصاري إنّي لأري وجوهاً لو شاء اللَّه إن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقي علي وجه الأرض نصراني إلي يوم القيامة. إمتنعوا المباهلة لقلّة ثقتهم بما هم عليه، وخوفهم من صدق النبيّ صلّي

اللَّه عليه وآله في قوله صلّي اللَّه عليه وآله: لو باهلوني لرجعوا لا يجدون أهلًا ولا مالًا، فأتوا النّبي صلّي اللَّه عليه وآله فقالوا: يا أبا القاسم صلّي اللَّه عليه وآله رأينا أن لا نباهلك، وأن تترك علي دينك ونثبت علي ديننا، قال صلّي اللَّه عليه وآله: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فأبوا، قال: فإنّي أناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك علي أن لا تغزونا ولا تخفيفنا ولا تردنا عن ديننا علي أن نؤدي إليك كلّ عام ألفي حلّة، ألف في صفر وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم علي ذلك، وأحجموا عن

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 90

ولا يخفي أنّه قد اختلف في وجه تسميته اليهود يهوداً.

فقيل: لأنّهم كانوا ينتسبون إلي يهوذا، أكبر ولد يعقوب، فعرّبت الذال وحذفت الألف للأستعمال.

وقيل: إنّه اسم جمع من هاد، بمعني التوبة، لأنّهم تابوا عن عبادة العجل.

وقيل: من الميل، لأنّهم مالوا عن الإسلام وعن دين موسي. وقيل:

من التحرك، لأنّهم يتحرّكون عند قراءة التّوراة «1»، وفيهما ضعف.

ويطلق الهود عليهم، وهو جمع هائد علي ما في المنجد «2».

المباهلة، افتضحوا وظهر الحقّ. وقال صلّي اللَّه عليه وآله: والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّي علي أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل اللَّه نجران وأهله حتي الطير علي رؤوس الشجر، ولما حال الحول علي النصاري كلّهم حتي يهلكوا، وعلم أنّ عليّاً وفاطمة والحسنان عليهم السّلام هم المراد من الآية، وإنّ أولاد فاطمة وذريّتهم يسمّون أبناء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وينسبون إليه نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة «3».

__________________________________________________

(1) راجع مجمع البيان 1/ 241.

(2) المنجد، كلمة

«الهُود».

(3) فضائل أمير المؤمنين لأحمد بن حنبل: 49، والكشاف 1/ 434، والصواعق المحرقة: 93، ومجمع البيان 1/ 164.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 91

وفي مجمع البحرين «1» حذف الياء الزائدة.

«إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» أي إن كنتم تزعمون محبّتكم للَّه تعالي فقط دون غيركم وأنتم أحبّاؤه، فتمنّوا الموت. وها هنا بحثان:

الأوّل: علّة قوله «إِنْ زَعَمْتُمْ» [1] دون «إن كنتم».

الثاني: سبب قوله «إِنْ زَعَمْتُمْ» دون «إن أيقنتم» أو «إن علمتم» أو غيرهما ممّا يفيد علمهم ويقينهم.

أمّا البحث الأوّل: فلأنّه لا يقال: إن كنتم، إلّاإذا كان المخاطب والمتكلّم أو أحدهما جاهلين بالواقع أو عالمين، كما تقول لمن جهلت شجاعته أو علمت به: إن كنت شجاعاً فاذهب إلي الحرب.

والحاصل: إنّه فرق بين جعل الواقع في حيّز الشرط وبين جعل إعتقاد المخاطب في حيّزه، والثاني أوفق بالمقام حيث يعلم كذبهم،

[1] قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذم القائلون به، نحو: زعم الذين كفروا، بل زعمتم، كنت تزعمون، زعمتم من دونه «2».

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين 4/ 442.

(2) المفردات: 213.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 92

وإنّ الواقع ليس كما يقولون.

وأمّا البحث الثاني: فلأنّه لا يقال: إلّاإذا كان المخاطب متيقّناً بصحة ما ادّعاه، سواء كان مطابقاً للواقع أم لا، وسواء كان المتكلّم يعتقد ذلك أم لا.

والحاصل: إنّ الصّدق تارةً يكون خبريّاً، وهو الكلام المطابق للواقع وإن لم يكن مطابقاً للاعتقاد، بل وإن كان بزعم المتكلّم كذباً، وأخري يكون مخبريّاً، وهو الكلام المطابق للإعتقاد وإن لم يكن مطابقاً للواقع، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّه لا يستعمل اليقين إلّا مع اعتقاد المخاطب بصحّة المدّعي مطلقاً.

هذا، فقوله تعالي «إِنْ زَعَمْتُمْ» متضمّن للأمرين: عدم

مطابقة المدّعي للواقع، وعلم المتكلّم بعدم مطابقته، فيكون مثل إدّعاء، لعدم كونهم كذلك، وبرهانه ما يليه، ولا يخفي لطفه.

واعلم أنّ الأولياء جمع وليّ، وهو الحريّ بالنصرة ناصراً حين الإنتصار، فمن يكون ناصراً للَّه، يكون ناصراً له صلّي اللَّه عليه وآله، كما قال تعالي «إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» «1».

«فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ» يقع الكلام فيه من وجوه:

__________________________________________________

(1) سورة محمّد «صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم»، الآية: 7.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 93

الأوّل: معني التّمني والكلام فيه.

الثاني: ما هو الأمر بالتّمني.

والثالث: هل يمكن الأمر به أم لا؟

الرابع: هل يمكن التمني أي طلبه أم لا؟

الخامس: سَبَب قوله «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ».

السادس: بيان القياس.

أمّا الوجه الأوّل، فنقول: قد اختلفت الأقوال فيه:

ففي مجمع البيان عن أبي هاشم: التّمني معني في النفس، ومن قال بذلك قال: ليس هو من قبيل الشهوة ولا من قبيل الإرادة، لأنّ الإرادة لا تتعلّق إلّابما يصحّ حدوثه، والشهوة لا تتعلّق بما مضي، والإرادة والتمني قد يتعلّقان بما مضي «1». ويؤيّده ما ذكره الرّضي:

«من أنّ ماهيّة التمني محبّة حصول الشي ء، أعمّ من إنتظاره وترقّب حصوله، أم لا» «2» وإن كان ظاهر كلامه خلاف ما ذكره أبو هاشم من تعلّقه بالماضي.

لكن أكثر اللّغويين علي كونه من جنس الكلام، وهو قول القائل

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 3/ 53 مع اختلافٍ في بعض الألفاظ.

(2) شرح الكافية، رضي الدين الأسترآبادي: 332.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 94

لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن: ليته كان، فهو يتعلق بالماضي والمستقبل «1»، وإن كان بعضهم أيضاً يصرّح بكونه بمعني الإرادة.

هذا، وليس التعرّض لتحقيق الحال هاهنا بمهمّ، لظهور إرادة التلفظ كما سيأتي.

وأمّا الوجه الثاني، ما هو الأمر بالتّمني؟ فالظاهر أن يقال: هو أمر تكذيبي،

نظير الأمر الإمتحاني … والتعجيزي، يعني أنّ المراد من الأمر إرادة ظهور كذبهم، كما أنّ الغرض من قولك: إن كنت سخيّاً فابذل، هو ذلك، فهذا الأمر ليس إرشاديّاً ولا مولويّاً [1].

[1] الأمر المولوي، هو الأمر الصادر من المولي بداعي البعث إلي المطلوب، بداعي إظهار الإعتبار النفسي الذي يعتبره المولي في حقّ العبد.

والأمر الأرشادي، هو الأمر الصادر بداعي المصلحة في متعلّق الأمر، ولما لم يكن أمر اللَّه لليهود بتمني الموت بداعي البعث حقيقة ولا لمصلحة في نفس التمني، لم يكن مولوياً ولا إرشاديا، بل هو أمر بداعي التكذيب، أي تكذيب دعوي اليهود محبّتهم للَّه ومحبة اللَّه لهم.

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين 4/ 238.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 95

وأمّا الوجه الثالث: هل يمكن الأمر بالتمني أم لا؟ فنقول: لما كان المراد بالتمني التلفظ لا الأمر القلبي، أمكن الأمر به، وإنّما لم يكن الأمر بالتمني القلبي، لعدم الإختيار، وأمّا أنّ المراد به التلفظ، فلكونه في مقام المباهلة، كما في مجمع البيان في تفسير الآية في سورة البقرة عن الكلبي عن ابن عباس أنّه قال: «كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول لهم: إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللّهمّ أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلّاغص بريقه فمات مكانه» [1]. وهذا صريح في الأمر بالتلفظ.

[1] قال الطبرسي قدّس سرّه: «وفي ذلك أعظم دلالة علي صدق نبيّنا وصحّة نبوته، لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه فكان كما أخبر، وأيضاً:

فإنّهم كفوا عن التمني للموت لعلمهم بأنّه حقّ، وأنّهم لو تمنّوا الموت لماتوا.

وروي الكلبي عن ابن عباس أنّه قال: كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول لهم إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللّهمّ أمتنا، فوالّذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلّاغص

بريقه فمات مكانه، وروي أنّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: لو تمنّوا لماتوا عن آخرهم «1».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 1/ 164 و 5/ 287.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 96

أمّا الوجه الرابع: هل يمكن التمني أم لا؟ فنقول: إنّ التّمني سواء كان باللسان أو بالقلب، يمكن طلبه، أمّا إن كان باللسان، كما هو المراد هاهنا علي الظاهر، فظاهر، وأمّا إن كان بالقلب وهو من الأمور غير الإختيارية، فيمكن تحصيله بتحصيل مقدّماته، كما هو طريق تحصيل غير الإختياري من الأمور، كالحبّ والبغض والسّخاء والشّجاعة، إلي غير ذلك من الحالات والملكات، بحسب القوي المودعة في النفس.

وأمّا الوجه الخامس، سبب قوله: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ»: فهو لتقوية بيان كذب إدعائهم، أي «إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ» في زعمكم ولايتكم للَّه تعالي «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» [1].

واعلم، أنّهم لو تمنّوا الموت لكان دليلًا علي محبّتهم للَّه من وجوه:

[1] قال ابن كثير: أي إن كنتم تزعمون أنّكم علي هدي، وأنّ محمّداً وأصحابه علي ضلاله، فادعوا بالموت علي الضال من الفئتين إن كنتم صادقين «1».

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن العظيم 4/ 364.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 97

الأوّل: وجوده في التوراة، كما عن علي بن إبراهيم القمي قال:

إنّ في التوراة مكتوب: أولياء اللَّه يتمنّون الموت «1».

الثاني: لتخلّصه من دار البلية التي تشغله بآلامه الطبيعية عن القيام بوظائف المحبّة، وهو لم يبلغ درجة أن لا يري الألم ألماً ولا ينشغل به، فيتمني الموت حتي يتفرغ قلبه عمّا يلهيه عن ذكر حبيبه.

الثالث: للإنتقال إلي دار الكرامة وإلي لقاء اللَّه تعالي وإن كان ههنا في الراحة والنعيم، حيث إنّ حجاب عالم المادة ممّا يؤذيه غاية الإيذاء، فيتمنّي ارتفاع هذا الحجاب، والتخلص من أذاه حتي تتبدل حياته المادية المغمورة بالحجب إلي الحياة الكاملة المقرونة بالمكاشفات، فيكشف

عنه غطاؤه وبصره اليوم حديد.

ولا يخفي: أنّ ما في الآية ميزان محبّة اللَّه تعالي، فمن رأي نفسه شائقاً إلي الموت، وكان متمنّياً له، كان محبّاً للَّه تعالي، ومن لم يكن كذلك لم يكن محبّاً.

ولهذا تري أمير المؤمنين عليه السّلام والصّلاة، يقول: «واللَّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه» «2»، وفي محلّ

__________________________________________________

(1) تفسير القمي 2/ 366.

(2) بحار الأنوار 28/ 234، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 213، وشرح أصول الكافي للشيخ محمّد صالح المازندراني: 42.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 98

آخر بعد ما قال له الحسن عليه السّلام: ما هذا زيّ الحرب: «يا بني، إنّ أباك لا يبالي وقع علي الموت، أو وقع الموت عليه» «1». وكذا كان سائر أوليائه.

هذا، وغير خفيّ علي الفطن العارف، أنّ الموت كما أنّه هادم اللذات والشهوات، كذلك ذكره هادم ذكرها، فمن ذكر الموت بحقيقة التذكر، فما دام كذلك، فهو منصرف عن اللّاهوتيّة النفسانية واللذات الشهوانية وعن ذكرها، وسيأتي في تفسير الآية الآتية القسم المذموم من التّمني. وفي المقام مطالب لا تناسب التفسير.

وأمّا الوجه السادس: بيان القياس فنقول: القياس إستثنائي، ينتج من رفع التالي رفع المقدّم. صورته: إن كنتم أولياء للَّه فتمنّوا الموت، ولا يتمنّونه، فلا يكونون أولياء له تعالي.

أمّا الملازمة بين التمنّي والولاية للَّه، فظاهرة ممّا سبق، وأمّا الملازمة بين عدميهما، فلأنّ ما ينعكس بعكس النقيض إذا جعل قياساً، كان رفع تاليه مستلزماً لرفع مقدّمه، لأعميّة التالي أو مساواته له.

إن قلت: لا نسلّم الملازمة بين الولاية وتمنّي الموت، لإمكان

__________________________________________________

(1) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 1/ 385، وبحار الأنوار 41/ 2.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 99

أن يكون وليّاً للَّه حقيقة ولا يتمنّي الموت، بل يرغب في البقاء في

الدنيا، لإتيان الأعمال الصالحة أكثر حتي ترتفع درجته.

قلت: إنّ المحبّ الحقيقي لا يريد إلّاالوصول إلي محبوبه، وإن فاته بسببه المنافع الكثيرة، وإلّا لم يكن تامّاً في محبّته، مشتاقاً إلي لقاء محبوبه [1].

واعلم: أنّ الجواب بالنقض- بأن يقولوا: نقتلك لتصل إلي النعيم الأبد، لأنّك تقول مثل مقالتنا- مردود، بأنّ عرض النفس علي الهلاك حرام، لقوله تعالي «وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ» «1»

، وبأنّ المقصود من البعث، هو التبليغ والهداية إلي الطريق المستقيم ولم يحصلا.

[1] قال الطنطاوي: خاطب اليهود وقال لهم: إن كنتم خواص اللَّه حقّاً فما لكم لا تحبّون الموت بقلوبكم؟ كلّا، أنتم لستم خواص للَّه، بل أنتم كعامة الناس تفرّون من الموت والموت ملاقيكم، هكذا ظاهر القول، ولكن حقيقته تعليم المسلمين، فهو من حيث الظاهر ذمّ لليهود من جهة وتكذيب، ومن جهة أخري تعليم للمسلمين ليعرفهم من هم أولياء اللَّه «2».

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 195.

(2) تفسير الجواهر 24/ 173.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 100

ثمّ، إن قيل: ما الدليل علي عدم تمنّيهم الموت فلعلّهم تمنّوا ذلك، وقوله تعالي «وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ» لا يصحّ الإحتجاج به مع اليهود، لعدم اعترافهم بالقرآن.

قلنا: لو تمنّوا الموت، لنقل إلينا، مع أنّه لم ينقل.

وفي المقام مباحث أخر ذكرت في المطولات، فليراجع إليها.

«وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَليمٌ بِالظَّالِمينَ».

أي لا يقولون: اللّهمّ أمتنا، بسبب ما قدّمت أيديهم من الكفر والمعاصي، وإنكار القرآن، وتحريف التوراة الموجب لتعذيبهم وتخليدهم في النار، لأنّهم كانوا عالمين بأنّهم الكاذبون، وأنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله وأوليائه هم الصادقون.

واعلم أنّ المشهور ما ذكرنا من أنّه كان المراد بتمنّيهم الموت تمنّيهم لأنفسهم، وفي بعض التفاسير تمنّيهم الموت للكاذب من الطرفين. ولا يخفي أنّ هذا

أوضح دليل علي نبوّة نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله، لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه وكان كما أخبر به.

ووجه التعبير «بِما قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ» مع أنّ الإنكار كان باللسان:

حصول الجناية في الغالب بها، وهذا الإستعمال شايع في العرف.

وقد تقدّم والكلام في لفظ «الظّالمين» [1].

[1] قال صدر المتألّهين قدّس سرّه: ولا يتمنّونه الموت لما

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 101

اكتسبت نفوسهم من ملكة محبّة الدنيا ولذّاتها وشهواتها وملكة الإنجذاب إلي دواعيها وأغراضها، فصارت نفوسهم مقيّدة بها، محبوسة فيها لتكرّر الأفاعيل البدنية الشهوية والغضبية، وتكثّر الأعمال الحيوانيّة البهيميّة والسبعية، الموجبة للركون إلي نعيم الدنيا وزهرتها، والإخلاد إلي أرض الشهوات والإستغراق في بحر اللذات، ومنشأ هذه الأعمال والأفعال كلّها هو الفساد في الإعتقاد، والشكّ في بقاء النفس في المعاد ورجوعها إلي الواحد القهّار … «1».

وقال الطبرسي: إنّ اللَّه تعالي عليم بالأسباب التي منعتهم عن تمنّي الموت، وبما أضمروه وأسرّوه من كتمان الحقّ عناداً، مع علم كثير منهم أنّهم مبطلون، وروي عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أنّه قال: «لو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا أو لرأوا مقاعدهم في النار، فقال اللَّه سبحانه:

إنّهم لن يتمنّوه أبداً، تحقيقاً لكذبهم»، وفي ذلك أعظم دلالة علي صدق نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وصحّة نبوّته، لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه فكان كما أخبر «2».

__________________________________________________

(1) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 198.

(2) مجمع البيان 1/ 164.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 102

«قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلي عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

أي قل يا محمّد صلّي اللَّه عليه وآله لهؤلاء اليهود: إنّ الموت الذي تفرّون منه ولا تتمنّونه خوفاً من العقاب بسبب التحريف والإنكار، ملاقيكم ولا يفيدكم الفرار، ثمّ تردّون إلي عالم

الغيب والشّهادة، فيخبركم بأعمالكم وما فعلتم في دار الدنيا، وفي هذه الآية مباحث:

الأوّل: أنّه هل ينبغي الفرار من الموت، أم لا؟ وما معني الفرار؟

الثاني: سبب إدخال الفاء في قوله (فإنّه).

الثالث: معني الشرط والجزاء، مع أنّ الموت ملاقيهم علي أيّ حال.

الرابع: سبب قوله (ثمّ) الظاهرة في التراخي.

الخامس: قوله (تردّون) الدالّ علي المجي ء من طرفه، دون (تأتون).

السادس: إختصاص الوصف بعالم الغيب والشهادة، دون غيرهما من الأوصاف.

السابع: قوله ينبّئكم، دون يجزيكم.

أمّا البحث الأوّل، فنقول: الفرار هو الهرب، ويكون تارةً بتبعيد النفس عن الشي ء المكروه، وأخري بتبعيده عنها، وثالثة بالمنع من

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 103

وصوله إليها، وهذا الأخير هو الظاهر في الآية، لأنّهم كانوا يمنعون من وصول الموت إلي أنفسهم بعدم التمنّي. هذا، والفرار مسبّب لأحد أمرين:

الأوّل: حبّ الدنيا والعلاقة بما فيها من الزخارف، مع العلم بعدم النصيب من الآخرة، وهذا هو الفرار المذموم [1] ولهذا تري أولياء اللَّه يتمنّون الموت لعدم حبّهم وعلاقتهم بالدنيا وما فيها، ورجائهم رحمة ربّهم، كما تقدّم في تمنّي أمير المؤمنين عليه السّلام للموت.

الثاني: تحصيل رضي اللَّه سبحانه بالبقاء والخوف من عقابه وهو من صفة المؤمن، كما قال اللَّه تعالي: «وَالَّذينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها» «1»

وهذا هو الفرار الممدوح، وفي الحقيقة ليس بفرار، لعدم صدقه علي الخائف والمتجنب عن الخلاف، وأيضاً: لا منافاة بين الإشفاق والتمنّي، كما هو ظاهر.

[1] عن أبي عبداللَّه عليه السّلام قال: جاء رجل إلي أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنّكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلي خراب «2».

__________________________________________________

(1)

سورة الشوري، الآية: 18.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 311.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 104

هذا، والفرار من الموت غير حري لدي العاقل، لأنّه

لا يستقدم ساعة ولا يستأخر، وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه السّلام «كلّ امري ء لاق ما يفرّ منه، والأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته» «1». وفي الصّافي عن القمّي عنه عليه السّلام قال: «أيّها الناس كلّ امري ء لاق في فراره ما منه يفر، والأجل مساق النفس إليه، والهرب منه موافاته» «2».

فإن قيل: علي ما ذكرتم من قبح الفرار لعدم فائدته، حيث إنّ الموت لا يستأخر، يلزم قبح تمنّيه بمثل ذلك، فما وجه تمنّي بعض أوليائه له؟

قلت: ليس التمنّي مثل الفرار، لأنّه يصحّ تمنّي الشي ء الذي لا يقع، فإنّه عبارة عن إظهار حبّ الشي ء، وهو لا ينافي العلم بعدم الوقوع، قال إسماعيل بن قاسم أبو العتاهية:

فياليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب «3»

ونفس إظهاره عبادة، حيث إنّه تشوق إلي لقاء اللَّه تعالي وإلي دار كرامته، وهو إقبال النفس إلي الآخرة، كما أنّه إدبار النفس عن

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 10/ 366.

(2) تفسير القمّي 2/ 366- 367، وتفسير البرهان 5/ 377، وتفسير الصّافي 5/ 173.

(3) ديوان أبي العتاهية: 23.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 105

الدنيا وزخارفها، وإن شئت قلت: إقبال إلي اللَّه سبحانه وإدبار علي ما سواه، بخلاف الفرار فإنّه بالعكس من التمنّي ولوازمه.

ويمكن أن يجاب أيضاً: بأنّ التّمني مؤثّر في تقديم الأجل تكويناً، بمعني أنّه مثل الدعاء، فكما أنّ الدعاء مؤثّر تكويناً، أي قدّر للداعي الغني مثلًا، لكن بشرط الدعاء الواقع لا محالة بالإختيار، فكذلك المتمني للولد مثلًا الذي قدّر له الولد، يتزوّج لا محالة، فالولد وإن كان لابدّ وإن يعطي لكن بالأسباب، فإنّه أبي اللَّه أن يجري الأمور إلّابأسبابها.

هذا، والكلام في هذا الباب كثير لا يسعه التفسير فليطلب من محلّه.

وأمّا البحث الثاني- أعني سبب إدخال الفاء فلأنه في

معني الجزاء.

ويمكن أن تكون سببيّة، تنبيهاً ودلالةً علي أنّ الفرار سبب للملاقاة، مثله في قوله تعالي «فَوَكَزَهُ مُوسي فَقَضي عَلَيْهِ» «1» «فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» «2»

فإنّ الوكز والتلقي كانا سبباً للموت والتوبة. وتدلّ عليه الرواية المتقدّمة عن عليّ عليه السّلام: «والأجل مساق النفس».

__________________________________________________

(1)

سورة القصص، الآية: 15.

(2) سورة البقرة، الآية: 37.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 106

وأمّا البحث الثالث: أعني معني الشرط والجزاء مع أنّ الموت ملاقيهم علي كلّ حال، فقد قيل: إنّ هذا علي جهة الرّد عليهم، إذ ظنّوا أنّ الفرار ينجيهم. وهذا مخدوش، لعدم تسليم أنّهم ظنّوا النجاة بسبب الفرار من الموت أو العذاب، وذلك لعلمهم بعدم نجاتهم منهما، وإن أريد ظنّهم الفرار حالًا وعدم موتهم وتعذيبهم حالًا، فلا يصحّ الرّد كما هو ظاهر. والصحيح أن يقال: لما كانت الفاء سببية، لم نحتج إلي جعل الجملة جواباً والتكلف لبيان الشرط.

وأمّا البحث الرابع: أي سبب الإتيان بلفظ ثمّ الدالّة علي التراخي، فهو الإشارة إلي فصل البرزخ بين هذه النشاة والنشأة الأخري [1]، فإنّ يوم الرّد إلي اللَّه تعالي والغالب في إطلاقه هو يوم القيامة، وإن كان الموت سبباً للرّد.

[1] قال الطريحي: البرزخ: هو ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلي البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ. ومنه الحديث: «كلّكم في الجنة ولكنّي واللَّه أتخوف عليكم البرزخ، قلت: وما البرزخ؟ قال:

من حين الموت إلي يوم القيامة». ومن حديث الصّادق عليه السّلام:

البرزخ القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة «1».

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين 1/ 186.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 107

وأمّا البحث الخامس: أي الإتيان بلفظ «تردُّون» دون أن يقال (يأتون) ونحو ذلك، فالنكتة فيه: أنّ العبد بالمعصية والتّمرد يكون قد فرّ عن مولاه، وصار آبقاً وضالّاً، والمناسب

مع الإباق والضّلالة هو الرّد، حيث يقال: ردّ الآبق، ردّت الضّالة. ومن ذلك يعلم سرّ التعبير بصيغة المبنيّ للمجهول المشعر بالزجر والعنف، فإنّ الآبق يردّونه بالزجر عليه، لا أنّه يأتي بنفسه وطبعه، وإلّا لما أبق من الأوّل، وبالقهر عليه يأتون به إلي اللَّه، وقد فرّ عنه تعالي بطبعه الأوّلي وعصاه، وتمرّد وبعد عنه، نعوذ باللَّه سبحانه من ذلك.

وأمّا البحث السادس، أعني اختصاص الوصف بعالم الغيب والشهادة دون سائر الصفات، فقد جاء تنبيهاً علي أنّ المرجع ليس من لا يعلم الغائب عن الأبصار، حتّي تتمكّنوا من إنكار ما كنتم تعلمونه في ضمائركم من صفات النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، وتعتقدون أنّه هو في باطن الأمر، وتخفون من الناس حذراً عن قطع رواتبكم واضمحلال رياستكم الباطلة، ولا ممّن يعلم المشاهد حتّي تقدروا علي إنكار ما أضللتم الناس عن طريق الهدي، وأوقفتموهم علي التوراة المحرّفة، وقلتم أنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله لم يأت بعد، وسائر الأكاذيب.

وليس يفيد غيرهما من الصّفات والأسماء هذا المعني

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 108

بالصراحة، ولو أطلق العالم لم يفده وإن كان شاملًا، وكذا لفظ الجلالة.

وأمّا البحث السابع، وهو سبب قوله «فَيُنَبِّئُكُمْ» دون يجزيكم معه، أو يجزيكم بدونه، مع أنّ يوم القيامة يوم الجزاء، فهو الدلالة علي أنّ ذلك اليوم تتمّ الحجّة عليهم بما فعلوا، أي ليس يوم القيامة يجزي الناس من دون عرض أعمالهم، بل تعرض أعمالهم حتّي لم يكن لهم حجّة، ثم يجزون بما فعلوا، ولو قال: يجزيكم، لم يفد ذلك.

وكذا لا احتياج إلي ذكر (يجزيكم) بعد (ينبئكم)، لأنّ الإخبار بما فعلوا لولا الجزاء كان لغواً، جلّ عن ذلك. والخلاصة: إنّ الجزاء من الأخبار ظاهر لكونه لازمه، فلا يحتاج إلي ذكره معه، وعن

الجزاء ليس الإخبار ظاهراً، فلا يكون مكانه. هذا.

ويستفاد من إتيان الفاء الدالة علي التراخي بظاهرها: تعطيلهم في المحشر الموجب لتعذيبهم، فإنّ الوقوف فيه للجرم عذاب شديد.

ونختم الآية بالحديث المرويّ عن الصّادق عليه السّلام في هذه الآية قال عليه السّلام تعدّ السنين، ثمّ تعدّ الشهور، ثمّ تعدّ الأيّام، ثمّ تعدّ الساعات، ثمّ يعدّ النفس «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لايَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» «1»

، والمعني: إنّ السنين تعدّ إلي السنة التي فيها

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان 4/ 334.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 109

يموت، وهكذا الشهور والأيّام والساعات والأنفاس حتي النفس الأخير. لا أنّ المعني: تعدّ النفس حتّي يصير ساعة، ثمّ السّاعات حتّي يصير يوماً، ثمّ الأيّام حتي يصير شهراً، ثمّ الشهور حتّي يصير السّنة، ثمّ السنين حتّي يجي ء أجله، فيشكل بأنّه لماذا عكس في الرواية، فتدبّر جيّداً [1].

[1] قال العلّامة الطباطبائي: «ففي الآية إيذانهم، أوّلًا: إنّ فرارهم من الموت خطأ منهم فإنّه سيدركهم ويلاقيهم، وثانياً: إنّ كرامتهم لقاء اللَّه خطأ آخر، فإنّهم مردودون إليه محاسبون علي أعمالهم السيئة، وثالثاً: إنّه تعالي لا يخفي عليه شي ء من أعمالهم ظاهرها وباطنها ولا يحيق به مكرهم، فإنّه عالم الغيب والشهادة.

ففي الآية إشارة أوّلًا: إلي أنّ الموت حقّ مقضي، كما قال «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» «1»

وقال: «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقينَ» «2»

، وثانياً: إنّ الرجوع إلي اللَّه لحساب الأعمال حقّ لا ريب فيه، وثالثاً: إنّهم سيوقفون علي حقيقة أعمالهم، فيوفونها، ورابعاً: إنّه

__________________________________________________

(1) سورة الأنبياء، الآية: 35.

(2) سورة الواقعة، الآية: 60.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 110

تعالي لا يخفي عليه شي ء من أعمالهم، وللإشارة إلي ذلك بدل اسم «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ

ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».

في هذه الآية مباحث:

الأوّل: وجه التعليق بما قبل، أي الربط بينها وبين الآية السابقة.

الثاني: وجه الخطاب بنحو القضيّة الشرطيّة الحقيقيّة.

الثالث: وجه الخطاب بالمؤمنين، ولم يذكر يا أَيُّهَا النَّاسُ، كما في بعض الموارد، مع أنّ الكفّار لما كانوا مكلّفين، لزم توجّه الخطاب إليهم أيضاً.

الرابع: سبب قوله «إِذا» وما يستفاد منه.

الخامس: الإتيان بلفظ المجهول «نُودِيَ»، وعدم ذكر المفعول به، بأن يقول نوديتم، ولم أتي بلفظ النداء دون الأذان.

السادس: إدخال مِنْ في قوله «مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ».

السابع: معني الجمعة.

الثامن: سبب قوله «فَاسْعَوْا» دون فامضوا أو اسرعوا.

التاسع: وجه قوله «إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» دون إليها مع أنّه أخصر.

الجلالة من قوله عالم الغيب والشهادة» «1».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 309 و 310.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 111

العاشر: التصريح بقوله «ذَرُوا الْبَيْعَ»، مع أنّه يستفاد من قوله تعالي «فَاسْعَوْا»، للمنافاة بينهما.

الحادي عشر: إختصاص البيع بالذكر.

الثاني عشر: معني قوله «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» ووجه الخيرية.

الثالث عشر: معني الشرطية، فإنّهم سواء علموا أم لم يعلموا كان ذلك خيراً.

الرابع عشر: وجه قوله تعالي «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» دون تَفْقَهُونَ، أو نحو ذلك.

ويذكر في طي كلّ من المباحث مطالب لها ربط بالمقام.

أمّا البحث الأوّل: فوجه الربط.

1- ما ذكرنا سابقاً من أنّ السّورة في مقام إبطال مباهاة اليهود بالأمور الثلاثة التي مرّ ذكرها. وهذا ظاهر، لأنّه لمّا فرغ من الأمرين الأوّلين شرع في الأمر الثالث، أعني بيان إنّ للعرب وللمسلمين الجمعة، كما إنّ لليهود السبت.

2- إنّه لما قال في أوّل السورة «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» أراد أن يبيّن ذلك تفصيلًا، فإنّ صلاة الجمعة بما لها من الخطبتين مشتملة علي جميع ما ذكر، كما سنذكره إن شاء اللَّه تعالي. وقصّة اليهود مثل وتهديد

في ضمن الكلام،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 112

فلا ينافي الربط.

3- وقيل: «وجه التعلق بما قبلها، هو إنّ الذين هادوا يفرّون من الموت لمتاع الدنيا وطيّباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيّباتها كذلك، فنبّههم اللَّه تعالي بقوله «فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» أي إلي ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة» «1» انتهي.

وخلاصته: إنّ الآية في مقام تنبيه المؤمنين بأن لا يكونوا مثل اليهود في ابتغائهم عرض هذه الدنيا.

وأمّا البحث الثاني: فوجه الخطاب بنحو القضيّة الحقيقيّة، هو التعميم ليعمّ المخاطبين، أعني الأمّيّين والآخرين الذين «لَمَّا يَلْحَقُوا».

وأمّا البحث الثالث، سبب تخصيص الخطاب بالمؤمنين، مع أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع الموجب لتوجّه الخطاب إليهم، فهو كون المؤمنين محلّ الإبتلاء دونهم، وعدم لزوم توجّه الخطاب إلي الكفّار ولو كانوا مكلّفين [1] وأنّ الكفّار معاقبون علي الفروع كمعقابتهم

[1] الثابت عند علماء الكلام، إنّ الكفّار مكلّفون بالتكاليف الشرعية كالمؤمنين، ولذلك فهم يحاسبون عليها يوم القيامة حتّي لو أتوا

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 30/ 8.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 113

علي الأصول، لأنّ الخطابات المطلقة كنحو (يا أيّها النّاس) والمتوجّه إليهم كمثل (يا أهل الكتاب)، كافٍ في عقابهم علي الفروع، فإنّهم لو آمنوا لشملهم الخطاب، وبتركهم له كانوا عاصين معاقبين، فكذا مع عدم إيمانهم، لأنّهم تعمّدوا ترك الإمتثال بتعمّد عدم الإيمان، فإنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ عبد ترك أمر المولي بالنسبة إلي فعل معيّن، لتركه المجي ء عنده للأمر الذي كان مأموراً به، ولا محلّ لاعتراضه علي المولي بانّك خاطبت الحاضرين ولم أكن معهم.

وأمّا البحث الرّابع، أي سبب التعليق (بإذا): فهو إفادة عدم لزوم السّعي إذا لم يناد لصلاة الجمعة، فإنّ المشروط ينعدم عند عدم شرطه، وصلاة الجمعة ليست كسائر الصّلوات واجباً مطلقاً، فإنّها حيث كانت مطلقة

لم يعلّقها في الآيات بشي ء كقوله «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» «1»

وقوله «حافِظُوا عَلَي بها، فإنّهم حال كونهم كفّار لا يتأتي منهم قصد القربة، ولكن اختلف علماء الكلام في أنّهم مكلّفون بالإعتقاد بأصول العقائد فقط، أو أنّهم مكلّفون بالفروع أيضاً.

__________________________________________________

(1) سورة الإسراء، الآية: 78.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 114

الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطي » «1»

وقوله «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنينَ كِتابًا مَوْقُوتًا» «2».

ويستفاد من التعليق (بإذا) أيضاً: عدم لزوم تحصيل النداء، كما هو شأن الواجب المشروط كالحجّ، فإنّه لا يجب تحصيل الزاد والراحلة، وكذا غيره من الواجبات المشروطة بشي ء، كالخمس والزكاة وغيرهما [1]. نعم، الظاهر أنّ وليّ الأمر من النّبي صلّي اللَّه عليه وآله والوصيّ عليه السّلام أو من كان منصوباً خاصّاً من قِبَلهما يتصدّي للنداء، ويأمر به في يوم الجمعة، بحيث كان ذلك من الوظائف المقرّرة في الشريعة، كما ربما يستفاد ذلك من بعض الروايات بل كادت تكون صريحة فيه.

[1] المطلق والمشروط: تنقسم الواجبات في الشريعة الإسلاميّة إلي واجب مطلق، وواجب مشروط، وأنّ الواجب إذا قيس وجوبه إلي شي ءٍ آخر خارج عن الواجب، فهو لا يخرج عن أحد نحوين: 1- أن يكون متوقّفاً وجوبه علي ذلك الشي ء، وهو- أي الشي ء- مأخوذ في وجوب الواجب علي نحو الشرطية، كوجوب الحجّ بالقياس إلي

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 238.

(2) سورة النساء، الآية: 103.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 115

وأمّا في عصر الغيبة والمنصوبين بالنّيابة العامّة، فلا دليل علي وجوب النداء عليهم، لكنّهم إن تصدّوا لذلك، أو تصدّي غيرهم له، واجتمع العدّة، أعني الخمسة أو السبعة، لوجب علي الكلّ الحضور للصّلاة، واللَّه العالم [1].

الإستطاعة، وهذا هو المسمّي بالواجب المشروط، لإشتراط وجوبه بحصول ذلك الشي ء الخارج، ولذا لا يجب الحجّ إلّاعند

حصول الإستطاعة 2- أن يكون وجوب الواجب غير متوقّف علي حصول ذلك الشي ء الآخر، كالحجّ بالقياس إلي قطع المسافة وإن توقّف وجوده عليه، وهذا هو المسمّي بالواجب المطلق، لأنّ وجوبه مطلق غير مشروط بحصول ذلك الشي ء الخارج، ومنه الصّلاة بالقياس إلي الوضوء والغسل والساتر ونحوها. ومن مثال الحجّ يظهر أنّه- وهو واجب واحد- يكون واجباً مشروطاً بالقياس إلي شي ءٍ، وواجباً مطلقاً بالقياس إلي شي ء آخر، فالمشروط والمطلق أمران إضافيان. ثمّ اعلم أنّ كلّ واجب، هو واجب مشروط، بالقياس إلي الشرائط العامّة، وهي البلوغ والقدرة والعقل، فالصّبي والعاجز والمجنون لا يكلّفون بشي ء في الواقع «1».

[1] لا شكّ أنّ صلاة الجمعة واجبة في الشريعة الإسلاميّة، لكن

__________________________________________________

(1) أصول الفقه للمظفّر قدّس سرّه 1/ 87.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 116

ذهب ابن ادريس وسلّار والسيّد المرتضي وغيرهم من الفقهاء الإماميّة، إلي أنّ وجوبها مشروط بوجود النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أو الإمام عليه السّلام أو النائب الخاصّ، المنصوص من النّبي أو الإمام، وحيث إنّ عصرنا هذا هو عصر الغيبة الكبري، فإنّ الإمام الحجّة بن الحسن المهدي صاحب الزمان أرواحنا له الفداء غائب عن الأنظار، أفتوا بحرمة إقامة الجمعة «1».

وذهب بعض كالشهيد الثاني وغيره إلي أنّ وجود النّبي صلّي اللَّه عليه وآله والإمام عليه السّلام أو النائب الخاصّ لم يكن شرطاً، بل تجب صلاة الجمعة في جميع الأزمنة، وذهب بعض إلي التخيير بين إتيان الظهر أو صلوة الجمعة، وهو الأشهر، كما قال به آية اللَّه العظمي السيّد أحمد الخوانساري:

«قد يجمع بين الأخبار الّتي تمسّك بها لمشروعيّة إقامة الجمعة مع عدم المنصوب من قبل الإمام عليه السّلام، وبين ما يستفاد منه عدم مشروعيّة الجمعة إلّامع الإمام عليه السّلام أو من يكون منصوباً

من قبله، بأن يكون وجوب صلاة الجمعة بحسب الجعل الأوّلي مشروطاً بأن

__________________________________________________

(1) راجع حجّة التفاسير 7/ 14.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 117

يقيمها النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أو خلفاؤه عليهم السلام أو من يكون منصوباً من قبلهم، فإذا دعوا إليها يجب السّعي إليها علي كلّ مكلّف إلّا من استثني، وفي زمن عدم حضورهم أو كونهم غير مبسوطي اليد، يجب علي الناس في يوم الجمعة صلاة أربع ركعات، وفي تلك الحالة إذا اجتمعوا للجمعة بالعدد المعتبر يصحّ منهم الجمعة مع بقاء مشروعيّة الظّهر بإطلاق المادة، ونتيجته التخيير» «1». وذهب بعض إلي أنّه لو اجتمعت الشرائط وجب الحضور إحتياطاً، كما قال به آية اللَّه العظمي السيّد ابوالقاسم الخوئي «2».

وقال السيّد الوالد: لا يجب النّداء لصلاة الجمعة، ولكن إذا نودي لصلوة الجمعة واجتمعت العدّة وجبت، لأنّ الأمر بالسعي في قوله تعالي «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» لا يمكن تعلّقه بالصّلاة، فلابدّ وإن يتعلق بإذا نودي، ويكون بياناً لظرف الزمان المستفاد من كلمة (إذا)، ويمكن أن يكون متعلّقاً بالصّلاة بتقدير المدخول، أي للصّلاة من وظائف يوم الجمعة لا لغيرها منها.

__________________________________________________

(1)

جامع المدارك في شرح المختصر النافع 1/ 524.

(2) منهاج الصّالحين 1/ 186.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 118

ثمّ إذا لوحظ ظاهر الكتاب من دون مراجعة الروايات، يمكن أن يقال: إنّ الصّلاة هي طبيعة الصّلاة، ولو كان المراد هو العهد لاختصّ بصلاة الجمعة التي كان الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله يقيمها، فإنّها المعهود، فتشمل صلاة الظّهر أيضاً، والمبادرة الّتي تستفاد من السّعي بل ومن الفاء التفريعية الواقعة في الجزاء المفيدة لتفرّع المادة المنتسبة، أو مفاد الهيئة وهي النسبة التلبسية إلي مقدّم الشّرطية، لا تنافيها، فإنّ وقتها يوم الجمعة ضيق كوقت صلوة الجمعة،

وأيضاً الأمر بالسعي لا مجال لإستظهار الوجوب منه، فإنّه محفوف بجملة «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» ولا أقلّ من أنّه يمكن أن يكون جهة الخير بلحاظ أنّ صلاة الجمعة أفضل من عدلها التخييري، وهو صلاة الظهر.

وبعبارةٍ أخري: أنّ الخير هو أفعل التفضيل، كما في قوله تعالي «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوي » «1»

و «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» «2» و «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» «3»

هذا كلّه، مضافاً إلي أنّ الآية الشريفة

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 197.

(2) سورة النمل، الآية: 89.

(3) سورة البقرة، الآية: 54.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 119

وأمّا البحث الخامس: فينحلّ إلي ثلاث جهات:

الأولي: وجه الإتيان بلفظ المجهول «نُودِيَ»: هو عدم الخصوصيّة في الفاعل، فإنّ المقصود وقوع النداء في الخارج، سواء كان المنادي زيداً أم عمرواً أم بكراً، كما تقول لمنتظر الزوال: إذا أذن فاستعد للصّلاة، حيث لا تريد أذان مؤذن مخصوص، وليست الآية بسببه من المتشابهات كما زعمه بعض- وقال: أتي بالفعل المجهول ولم يذكر المنادي لئلّا يؤخذ بإطلاقه، بل أشار بالإجمال والإهمال وأنّه ليس بصدد البيان، بل أوكل بيانه إلي أولي العلم، قال تعالي «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ» «1»

إلي آخر ما ذكره من نحو هذه الكلمات- لأنّ الفعل المجهول ظاهر في التعميم وعدم الخصوصيّة، فإنّ الإتيان به لتعليق الحكم بالواقع في الخارج من غير نظر إلي شخص معيّن، خصوصاً إذا كان المتكلّم بصدد البيان.

لا تفيد الأمر بايقاع صلاة الجمعة ووجوب النّداء لها، بل تدلّ علي الأمر بالسعي علي تقدير النّداء، فيكون السّعي إليها واجباً مشروطاً بالنّداء، أمّا

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران، الآية: 7.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 120

وجوب تحصيل الشرط، فلا تدلّ الآية عليه.

وبالجملة: فإنّ «نُودِيَ» له

معنيً ظاهر، وهو الإسناد إلي المفعول له، لدخالته في الحكم، ولم يسند إلي الفاعل، لعدم مدخلية ذلك في الحكم، ضرورة أنّه لم يكن في الشرع للمنادي خصوصيّة يختلف باختلافه الحكم، مثلًا لو لم يكن ينادي بلال [1] يوماً هل كان

[1] بلال بالكسر بن رياح الحبشي، كان من السّابقين في الإسلام، شهد بدراً وأحداً وخندق والمشاهد كلّها مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وكان ممّن يعذّب في اللَّه عزّ وجل فيصبر علي العذاب، وكان أبو جهل يبطحه علي وجهه في الشمس ويضع الرّحي عليه حتّي تصهره الشمس، ويقول: أكفر بربّ محمّد صلّي اللَّه عليه وآله فيقول: أحداً أحداً، هانت عليه نفسه في اللَّه عزّ وجلّ، وهان علي قومه فأخذوه، فكتفوه، ثمّ جعلوا في عنقه حبلًا من ليف، فدفعوه إلي صبيانهم فجعلوا يلعبون به بين اخشبي مكّة فإذا ملوا تركوه، وقيل: إشتراه أبو بكر، وهو مدفون بالحجارة ضربته جماثه ضربة ألقي علي الأرض، فرآه سلمان وصهيب ملقي علي وجه الأرض ميتاً والدم يجري من تحته، فأخبر النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله بذلك فصلّي النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله ركعتين ودعا بدعوات وأخذ كفاً من الماء فرشّه علي بلال فوثب قائماً وجعل يقبّل قدم النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، قال الصّادق عليه السّلام: «رحم اللَّه

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 121

بلالًا فإنّه كان يحبّنا أهل البيت، لعن اللَّه صهيباً فإنّه كان يعادينا» «1».

وعن جابر، قال: «كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في قبّة من ادم (خيمة اسمر) وقد رأيت بلالًا الحبشي وقد خرج من عنده ومعه فضل وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فابتدره الناس، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به وجهه، ومن لم يصب منه

شيئاً أخذ من يدي صاحبه فمسح به وجهه، وكذلك فعل بفضل وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام» «2»، وبلال أوّل من أذن في الإسلام وكان مؤذّن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في حياته سفراً وحضراً، وكان مسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بلا منارة وكان بلال يؤذّن علي الأرض.

وعن أبي عبداللَّه عليه السّلام قال: «كان طول حائط مسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قامة، فكان يقول صلّي اللَّه عليه وآله لبلال إذا أذن: أعل فوق الجدار وارفع صوتك بالأذان» «3»، وأذن بلال علي ظهر الكعبة في عمرة القضاء (السنة السابعة من الهجرة) وفي فتح مكّة دخل

__________________________________________________

(1) الاختصاص: 73.

(2) بحار الأنوار 17/ 33، باب العشرة معه وتفخيمه، الرّقم 15.

(3) بحار الأنوار 81/ 148.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 122

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله مكّة وكان وقت صلاة الظهر، فأمر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وآله بلالًا فصعد علي ظهر الكعبة فأذن، فما بقي صنم بمكّة إلّاسقط علي وجهه» «1».

فلمّا توفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله إمتنع بلال من الأذان، وقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول اللَّه، وغضب عليه عمر بن الخطاب لإبائه البيعة مع أبي بكر، فقال له عمر: لا أبالك لا تقم معنا، فارتحل بلال إلي الشّام، ولمّا دخل الشّام لم تر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ورأي النّبي صلّي اللَّه عليه وآله في منامه، وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال، ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزيناً فركب إلي المدينة، فأتي قبر النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين عليهما السّلام فجعل يقبّلهما ويضمّهما، فقالا له نشتهي أن تؤذن في السحر، وفي رواية: إنّ

فاطمة عليها السّلام قالت ذات يوم إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذّن أبي بالأذان، فبلغ بلالًا ذلك، فعلا بلال سطح المسجد، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، ارتجت المدينة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار 21/ 119.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 123

النّبي صلّي اللَّه عليه وآله يترك الجمعة؟ والحاصل: إنّ المعني المطابقي لكلمة «نُودِيَ» واضح، وقد ذكر في مقام البيان، ولو فرض الشك في كونه في هذا المقام لحكمنا بمقتضي أصالة البيان أنّه في مقامه، فنأخذ بمفاده، فلا داعي إذاً لحمل هذه الآية علي المتشابهات بدعوي كونها مجملة أو مهملة [1].

وإنّ فاطمة ذكرت أباها وأيّامه، فلم تتمالك من البكاء، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، زادت رجتها، فلمّا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه خرج النساء من خدورهنّ وشهقت فاطمة وسقطت لوجهها، وغشي عليها، فقال الناس لبلال: إمسك يا بلال، فقد فارقت إبنة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الدنيا وظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمه، فما رؤي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم، فأفاقت فاطمة، وسألته أن يتمّ الأذان، فلم يفعل، وقال لها يا سيدة النساء إنّي أخشي عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعتي صوتي بالأذان فأعفته من ذلك. رجع بلال إلي دمشق وتوفّي رحمه اللَّه بدمشق ودفن بباب الصغير سنة عشرين وهو ابن بضع وستين سنة «1».

[1] المجمل والمبيّن؛ المبيّن: ما كان ظاهراً في معناه يدلّ علي مقصود قائله أو فاعله علي وجه الظن أو اليقين، فالمعيّن يشمل الظاهر

__________________________________________________

(1) أسد الغابة 1/ 208، وتنقيح المقال 1/ 182، وسفينة البحار 1/ 16 و 104.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 124

الثانية: سبب عدم جعل المفعول به نائباً عن الفاعل: أي لم يقل (نوديتم)، هو

إفادة العموم وعدم إرادة الخصوصيّة، فإنّه لو قال:

والنّص معاً.

المجمل: ما جهل فيه مراد المتكلم ومقصوده إذا كان لفظاً، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده إذا كان فعلًا، ومرجع ذلك إلي أنّ المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له، قد ينشأ من كون الشارع في مقام التشريع دون النظر إلي مرحلة الإمتثال، وقد ينشأ من كونه في صدد بيان آخر، مثل قوله تعالي بالنسبة إلي الكلاب المعلّمة «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ» «1»

في صدد بيان حلّيّة أكل الصّيد ولذلك فهي مجمل من ناحية نجاسة موضع الإمساك وعدمها، وتارةً يكون إجماله لكونه مجازاً أو لعدم معرفة عود الضمير فيه الذي هو من نوع مغالطة المماراة، مثل قول القاتل لما سئل عن فضل أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وآله فقال «من بنته في بيته» وكقول عقيل «أمرني معاوية أن أسب عليّاً، ألا فالعنوه» «2» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة المائدة، الآية: 4.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 613 وقد نقل عن سلطان المحققين في حاشية المعالم في البحث عن المجمل.

(3) أصول الفقه للعلّامة المظفر 2/ 195.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 125

نوديتم، لتوهّم اختصاص الحكم بهم، وقد ذكر أهل البيان إنّ الحذف قد يكون للتعميم كقولك: قد كان منك ما يؤلم، تريد كلّ واحد، وهذا التعميم وإن أمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم، لكنّه يفوت الإختصار حينئذ، والمراد أنّ كلّ من يمكن نداؤه من أولي العقل، كقوله: ولو تري، علي ما قيل من أنّه خطاب لكلّ من يتمكن من الرؤية، مضافاً إلي أنّ الدخيل في الحكم هو الإسناد إلي المفعول له، وحصر نائب الفاعل فيه أوفق بالدلالة علي ذلك.

وأمّا خروج مثل الصبي والمجنون والمرأة وغيرهم مع إمكان ندائهم، فبما سنذكره بعد إنْ شاء

اللَّه تعالي ممّا يستفاد من نفس الآية، مع قطع النظر من الأخبار الدالة علي خروجهم.

الثالثة: أمّا علّة التعبير بالنداء دون الأذان، فهو اشتماله علي الحيعلات، فإنّها نداء وأمر بالصّلاة والأذان، وإن كان هو أمراً بالصّلاة، إلّاأنّه في غير صلاة الجمعة فقط للإعلام.

وأمّا البحث السادس، أي سبب إدخال «من» في قوله «مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ»: فقيل إنّه بمعني «في» أي في يوم الجمعة، وقيل: إنّه للبيان، وقدر مضاف أي من صلاة يوم الجمعة، وقيل: إنّها بيان «لإذا».

والأصحّ: إنّها بمعني التبعيض، أي بعض يوم الجمعة، فإنّ النداء الواجب إجابته مختص بالنداء لصلاة الجمعة لا لصبحها

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 126

وعصرها، وليس بتلك المعاني المذكورة، لما في الأوّل من خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر إنّ (من) استعملت في معناها لا في معني «في».

وفي الثاني من التكلّف، فإنّ الأصل عدم التقدير. وفي الثالث فوات النكتة التي ذكرناها، وهو لا يختص به بل آت في الأوّلين أيضاً.

وأمّا البحث السابع، معني الجمعة، وسبب وضعها واللغات فيها: فالجمعة علي ما في القاموس بمعني المجموعة، «1» وفيها لغات، ضمّ الميم، وعليه القراءة المشهورة، وهي لغة أهل الحجاز.

وفتحها، وهي لغة بني تميم، وسكونها وهي لغة عقيل.

واختلف في وجه وضعها، ففي الصافي عن الكافي عن الباقر عليه السّلام: «إنّ اللَّه جمع فيها خلقه لولاية محمّد صلّي اللَّه عليه وآله ووصيّه في الميثاق فسمّاه يوم الجمعة، لجمعه فيه خلقه» «2» وكذا في مجمع البحرين [1] إلّاأنّه زاد في أوّله سميت الجمعة جمعة، لأنّ اللَّه … ونقص من آخره: لجمعه فيه خلقه «3».

[1] «وكان يسمّي (الجمعة) أوّلًا يوم العروبة، ثمّ غلب عليه اسم

__________________________________________________

(1) القاموس 3/ 14.

(2) الكافي 3/ 415، الرّقم 7، باب فضل يوم الجمعة، تفسير الصّافي 7/ 190.

(3) مجمع البحرين

1/ 395.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 127

وفي مجمع البيان إنّما سمّي جمعة، لأنّه تعالي فرغ فيه من خلق الأشياء، فاجتمعت فيه المخلوقات «1»، وفي البيضاوي: إنّما سمّي جمعة لاجتماع النّاس فيه للصّلاة «2»، وقيل: لأنّه لا تجمع فيه الجمعة» «3»، وقيل: «لإجتماع الناس فيه للصلوة» «4» وقيل: «أوّل جمعة صلّي فيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بعد ما قدم مهاجراً إلي المدينة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم، إتّخذ في ذلك الموضع مسجداً فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها، وصلّي الجمعة في الإسلام» «5» وقيل: «وقد ورد في فضل الجمعة روايات كثيرة وعن سلمان رضي اللَّه عنه عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أنّه قال: «واللَّه يا عليّ إنّ شيعتك ليؤذن لهم في الدخول عليكم في كلّ جمعة، وإنّهم لينظرون إليكم من منازلهم يوم الجمعة كما ينظر أهل الدنيا إلي النجم في السّماء، وإنّكم لفي أعلي علّيين في غرفةٍ ليس فوقها درجة أحد من خلقه «6» «7».

__________________________________________________

(1)

مجمع البيان 10/ 9.

(2) تفسير البيضاوي: 736.

(3) مجمع البحرين 4/ 313.

(4) الميزان 19/ 314.

(5) تفسير الجواهر 24/ 171.

(6) بحار الأنوار 8/ 174.

(7) مجمع البيان 5/ 286.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 128

الجماعات «1». وفي تفسير الرازي عن سلمان رضي اللَّه عنه قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «سمّيت الجمعة جمعة، لأنّ آدم جمع فيها خلقه» «2» وقيل: أوّل من سمّاه كعب بن لؤي جدّ النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وكانت العرب تسميه العروبة «3». وقيل: الأنصار. وقيل غير ذلك ممّا لا يسعه المقام، فليرجع إلي محلّه «4».

وأمّا البحث الثامن، أي سبب قوله «فَاسْعَوْا» دون فامضوا أو إسرعوا: الأمر بالسرعة إليها بالأقدام والقصد في المشي،

والكفّ عن العمل، والسرعة بالقلب، كما تقول لزيد: إسع إلي الأمر الفلاني، تريد السرعة بالقلب. وليس جميع ما ذكرناه معني مطابقيّاً له، وفي الصافي عن الباقر عليه السّلام: «أسعوا أي امضوا» «5» وعن العلل عن الصّادق عليه السّلام: معني «فاسعوا هو الإنكفاء» «6» وعن الكافي عن الباقر

__________________________________________________

(1) الظاهر أنّ المراد عدم اجتماع الناس في المساجد لصلاة الظهر، في يوم الجمعة، ولكن لم نجده بهذا اللفظ، وفي مجمع البيان: لأنّه تجتمع فيه الجماعات.

(2) تفسير الفخر الرازي 30/ 8.

(3) تفسير الكشاف 4/ 104.

(4) تفسير صدر الدين الشيرازي: 576.

(5) تفسير الصّافي 7/ 191 عن القمي 2/ 367.

(6) علل الشرائع 2/ 357.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 129

عليه السّلام فاسعوا إلي ذكر اللَّه قال: «إعملوا وعجّلوا، فإنّه يوم مضيق علي المسلمين [فيه ]، وثواب أعمال المسلمين فيه علي قدر ما ضيق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه، قال: واللَّه لقد بلغني أنّ أصحاب النّبي كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس، لأنّه يوم مضيّق علي المسلمين «1» انتهي.

واعلم: أنّ تفسير السعي بالعمل بالتعجيل، توطئة لقوله عليه السّلام: فإنّه يوم مضيق، وأمّا كونه يوم مضيق، فلعدم كونه كسائر الأيّام لكثرة الأعمال فيه، فلا يمكن البطء في العمل مع الإتيان بتمام الأعمال. ولعلّ المراد بقوله: وثواب أعمال المسلمين فيه علي قدر ما ضيق عليهم إنّ الذي يضيق عليه اليوم أكثر من الآخر، كمن بعد بيته عن محلّ إقامة الجمعة مثلًا الموجب لكثرة تعبه، يكون ثوابه أكثر، فإنّ أفضل الأعمال أحمزها.

وفي المقام أقوال أخر ضربنا عنها صفحاً حذراً عن التطويل [1].

[1] عن سعيد بن جبير قال: ما خلق اللَّه رجلًا بعد النّبيّ صلّي اللَّه عليه وآله أفضل من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قول اللَّه عزّ وجلّ

«فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ»: ولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام، ورواه ابن عباس «2».

__________________________________________________

(1) الكافي 3/ 415، باب فضل يوم الجمعة، الرّقم 10 وتفسير البرهان 4/ 334.

(2) تفسير فرات الكوفي: 185.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 130

وأمّا البحث التّاسع، أي وجه قوله «إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» دون إليها، مع أنّه أخصر: فهو الإشارة إلي الصّلاة بمالها من الخطبتين، ليفيد وجوب الحضور إلي سماع الخطبتين أيضاً، لا مجرّد الحضور إلي الصّلاة ولو بعدهما، وبيان عظمة صلاة الجمعة من كونها ذكر اللَّه، وهو أمر عظيم، فهو مثل العلّة، فيكون للترغيب، كما يقال: إذا نودي للحضور لدي الأمير يوم العيد فبادروا إلي شمول عناياته، ولا يقال: بادر إلي الحضور، أو إذا صاح الدلال للبضاعة فبادر إلي الإسترباح، ولا يقال إلي شراءها، والتقدير الحضور الموجب لشمول عناياته. وهكذا الإسترباح، ومن الواضح إنّ ما كان كذلك ينبغي البدار اليه [1].

[1] إختلف الأصوليون في دلالة صيغة الأمر علي الفور والتراخي علي أقوال:

1. أنّها موضوعة للفور.

2. أنّها موضوعة للتراخي.

3. أنّها موضوعة لهما علي نحو الإشتراك اللفظي.

4. أنّها غير موضوعة لا للفور ولا للتراخي ولا للأعمّ منهما، بل لا دلالة لها علي أحدهما بوجه من الوجوه، وإنّما يستفاد أحدهما من القرائن الخارجية التي تختلف باختلاف المقامات، والحقّ هو الأخير،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 131

والدليل عليه: عرفت من أنّ صيغة إفعل، إنّما تدلّ علي النسبة الطلبية، كما أنّ المادة لم توضع إلّالنفس الحدث غير الملحوظة معه شي ء من خصوصياته الوجودية، وعليه فلا دلالة لها، لا بهيئتها ولا بمادتها علي الفور والتراخي، بل لابدّ من دالّ آخر علي شي ء منهما، فإن تجردت علي الدال الآخر، فإنّ ذلك يقتضي جواز الإتيان بالمأمور به علي الفور أو التراخي، هذا

بالنظر إلي نفس الصيغة، أمّا بالنظر إلي الدليل الخارجي المنفصل، فقد قيل بوجود الدليل علي الفور في جميع الواجبات علي نحو العموم إلّاما دلّ عليه دليل خاصّ ينصّ علي جواز التراخي فيه بالخصوص، وقد ذكروا لذلك آيتين:

(الأولي): قوله تعالي «وَسارِعُوا إِلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» «1»

وتقريب الإستدلال بها: إنّ المسارعة إلي المغفرة لا تكون إلّابالمسارعة إلي سببها، وهو الإتيان بالمأمور به، لأنّ المغفرة فعل اللَّه تعالي، فلا معني لمسارعة إليها، وعليه فيكون الإسراع إلي فعل المأمور به واجباً لما مرّ من ظهور صيغة إفعل في الوجوب.

__________________________________________________

(1)

سورة آل عمران، الآية: 127.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 132

(الثانية) قوله تعالي «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» «1»

فإنّ الإستباق بالخيرات عبارة أخري عن الإتيان بها فوراً.

(والجواب) عن الإستدلال بكلتا الآيتين، إنّ الخيرات وسبب المغفرة كما تصدق علي الواجبات تصدق علي المستحبات أيضاً، فتكون المسارعة والمسابقة شاملتين لما هما في المستحبات أيضاً، ومن البديهي عدم وجوب المسارعة فيها، كيف وهي يجوز تركها رأساً، وإذا كانتا شاملتين للمستحبات بعمومهما، كان ذلك قرينة علي أنّ طلب المسارعة ليس علي نحو الإلزام، فلا تبقي لهما دلالة علي الفورية في عموم الواجبات، بل لو سلمنا باختصاصهما في الواجبات لوجب صرف ظهور صيغة إفعل فيها في الوجوب وحملها علي الإستحباب، نظراً إلي إنّا نعلم عدم وجوب الفورية في أكثر الواجبات، فيلزم تخصيص الأكثر بإخراج أكثر الواجبات عن عمومهما، ولا شكّ أنّ الإتيان بالكلام عامّاً مع تخصيص الأكثر وإخراجه من العموم بعد ذلك قبيح في المحاورات العرفية ويعدّ الكلام عند العرف مستهجناً، فهل

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 143، وسورة المائدة، الآية: 53.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 133

ثمّ إنّ النقطة المركزية، هو ذكر اللَّه ويلازمه السياسة الدينية والمدنية. وبعبارةٍ أخري: الملازمة بين ذكر

اللَّه بالكيفيّة المخصوصة وقسمي العقل العمليّ والنّظري، فإنّ الإنسان بسبب الذكر يصير كتاباً تكوينياً آفاقياً، وعالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني.

وتفسير ذلك: إنّ القوي الجسمانية بسبب الإنهماك في الشهوات الحيوانية مانعة عن رقّي الروح وموجبة لاشتغالها بها وغفلتها عن مبدأها، ولهذا تنحط غاية الإنحطاط، فلابدّ من الرياضة الروحية، وترك المشتهيات الطبعية، والإنتقال من الغفلة إلي الذكر، فإن فيه حياة القلب وغذاء الروح، وأيضاً: إنّ العالم السفلي- أعني النشأة الأولي- مشتركة بين ذوي العقول وغيرهم من أصناف الحيوانات، وامتياز الإنسان بروحه أي بالعقل وهو ما عبد به الرّحمن

تري يصحّ لعارف بأساليب الكلام أن يقول مثلًا (بعت أموالي) ثمّ يستثني واحداً فواحداً حتي لا يبقي تحت العام إلّاالقليل؟ لا شكّ في أنّ هذا الكلام يعدّ مستهجناً لا يصدر عن حكيم عارف، إذن، لا يبقي مناص من حمل الآيتين علي الإستحباب «1».

__________________________________________________

(1) أصول الفقه 1/ 77.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 134

واكتسب به الجنان، فلو تشاغل بهذه النشأة فيكون كالأنعام بل أضلّ، وقهراً تستولي عليه الظلمة ويبعد عن حضرة الرّب جلّ وعلا، وبالذكر يتشاغل بعالم اللاهوت، فيتنور ويقترب من مبدئه ويكون أعلي من الملائكة، حتّي ورد في الحديث القدسي «أنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَني» «1».

فائدة: إستدلّ بعض محرّمي صلاة الجمعة في زمان الغيبة بقوله تعالي: «فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» ببيان أنّ المراد بذكره رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، لوجوه:

الأوّل: إنّه لو كان المراد من الذكر هو الصلاة لقال: «فاسعوا» فإنّه أصرح وأوجز وآكد.

الثاني: قوله تعالي «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاتَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ» «2»

وبالضرورة لا يعلم البيّنات والزّبر إلّاأهل البيت عليهم السّلام، والذّكر هو النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، وأهله أهل الذكر لا غير، فيجب الرّجوع والسئوال عنهم في هذا الحكم

وسائر الأحكام دون غيرهم.

__________________________________________________

(1) الكافي 2/ 496، باب ما يجب من ذكر اللَّه، الرقم 4، والتوحيد: 182، الرّقم 17، ووسائل الشيعة 1/ 311 باب عدم ذكر اللَّه وتحميده، الرقم 4.

(2) سورة النحل، الآية: 43 و 44.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 135

الثالث: قوله تعالي «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» «1».

الرابع: قوله تعالي: «رِجالٌ لاتُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ» «2».

وحيث ثبت أنّ ذكر اللَّه هو النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، فيكون مفاد آية الجمعة هو وجوب السعي إلي النّبي والإمام لا إلي غيرهم إلّا بإذنهم وتعيينهم، فيكون في الحقيقة سعياً إليهم.

وفي الأدلّة- مع قطع النظر عن الأدلّة الدّالة علي وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة- نظر.

أمّا في الأوّل، فقد ظهر ممّا سبق أن التصريح للإشارة إلي حضور الخطبتين وكأنّه مثل العلّة، فيكون للترغيب ولبيان العظمة.

وأمّا في الثاني فنقول: إنّ التعبير بالذكر عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله في مكان لا يوجب إرادته منه حيثما استعمل، فهو مجاز لا يصار إليه إلّابدليل، فاستعماله في القرآن وما في الروايات من تسمية اللَّه النّبي صلّي اللَّه عليه وآله ذكراً، غير دالّ علي الوضع، حتّي يكون حقيقة، وعلي فرض التسليم بوضعه له، فهو مشترك، ولا يصار إلي

__________________________________________________

(1) سورة الطّلاق، الآية: 10- 11.

(2) سورة النور، الآية: 37.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 136

أحد معانيه إلّابالقرينة، والسياق في الآية دالّ علي إرادة الصّلاة من الذكر.

ولا يخفي عليك إنّ ما ذكرناه، دليل علي عدم إرادة النّبي صلّي اللَّه عليه وآله من الذكر في هذه الآية.

وأمّا ما استدلّ به القائل فهو واضح البطلان، لأنّ قوله تعالي «بِالْبَيِّناتِ» ليس متعلّقاً بقوله «فَسْئَلُوا» حتّي يستدلّ بأنّه لا يعلم

البيّنات والزّبر إلّاأهل البيت عليهم السّلام، بل هو متعلق بقوله «أَرْسَلْنا»، كما فسّره المفسرون، فإنّ السئوال لا يتعدي بالباء بل يتعدي إلي المفعولين بنفسه إذا لم يكن بمعني الإستخبار ومعه يتعدي إلي المفعول الثاني ب «عن»، بخلاف الإرسال، فإنّه يتعدي بالباء كما نص عليهما اللغويون.

وأمّا في الثالث، فمثل ما ذكر في الثاني، من أنّ إطلاق الذكر عليه صلّي اللَّه عليه واله حقيقةً أو مجازاً في بعض الموارد، لا يوجب إرادته صلّي اللَّه عليه وآله متي أطلق، بل يحتاج إلي قرينة صارفة أو معيّنة، ولم يكن في الآية قرينة علي إرادته صلّي اللَّه عليه وآله من الذكر فلا يحمل عليه، بل سياق الآية يقتضي لعدم إرادته من الذكر، كما تقدّم.

واعلم أنّ الآية ليست كما ذكرها المستدل، بل ما في سورة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 137

الطلاق هكذا «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ» «1».

وأمّا في الرابع: فلا نعلم وجه الإستدلال به أصلًا، وإن أراد كون المراد به الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، لإطلاقه عليه في غير هذه الآية، فمضافاً إلي أنّه لا يكون دليلًا علي المدّعي، فعدُّه من الأدلّة غير صحيح، ويرد عليه ما ذكر في الثاني والثالث، ولم أرَ من فسّر ذكر اللَّه بالنّبي صلّي اللَّه عليه وآله في هذه الآية، فأين وجه الدلالة؟

وأمّا البحث العاشر، أي سبب التصريح بقوله «وَذَرُوا الْبَيْعَ» مع استفادته من قوله «فَاسْعَوْا» للمنافاة بينهما، فهو تأكيد الكلام، والحثّ علي التعجيل، فإنّه تعالي لم يكتف بالدلالة الإلتزامية التي تكون بين السّعي إلي ذكر اللَّه وترك البيع، فإنّ التصريح بالمطابقة آكد، وفي الصافي عن الفقيه روي أنّه كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة نادي منادٍ حرم البيع حرم البيع

«2».

واعلم: أنّ الآية دالّة علي حرمة البيع وإن لم يناف السعي، ولفظ «وَذَرُوا» أشدّ تأكيداً من «أتركوا»، ولهذا إختاره سبحانه وتعالي.

وأمّا البحث الحادي عشر، أعني وجه إختصاص البيع بالذكر

__________________________________________________

(1) سورة الطّلاق، الآية: 10- 11.

(2) تفسير الصّافي 7/ 191 عن الفقيه 1/ 299، باب علّة تشريع الأذان، الرّقم 913.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 138

دون غيره، فهو كونه من أهمّ ما يشتغل به المرء في النهار، وأنّه المصداق الجليّ بين الأفعال، والفرد الأكثر ابتلاء، وإلّا فليس المراد خصوص البيع بل كلّ معاملة. وقد يستظهر من الآية عدم حرمة غير البيع، كالهبة والصلح والإجارة ونحوها إذا لم يناف السعي، كأن يهب مثلا في الطريق، بخلاف البيع فإنّه يحرم ولو لم يناف السعي، كما ذكر [1].

[1] قال الشيخ أحمد الجزائري: «دلّ قوله «وَذَرُوا الْبَيْعَ» بصريحه علي تحريم البيع بعد النداء، كما دلّ عليه الأمر بالسعي بالإلتزام، قال في التذكرة: وعليه إجماع العلماء كافّة «1». وقال ابن بابويه في كتابه: كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة نادي مناد حرم البيع لقوله تعالي «إِذا نُودِيَ» الآية «2».

فروع:

الأوّل: البيع الواقع في أثناء السعي هل يحرم أم لا؟ ظاهر إطلاق الآية وكلام الأصحاب التحريم، ويحتمل العدم، بل هو غير بعيد لعدم منافاته للسعي إليها وللأصل.

الثاني: هل يحرم غير البيع من العقود والمعاملات؟ قال

__________________________________________________

(1) التذكرة 4/ 33، المسألة 392.

(2) تقدّم عن الفقيه فراجع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 139

الأكثر: بالعدم «1».

وفي المعتبر: «إنّ ذلك هو الأشبه بالمذهب» «2» لأنّ تعديته إلي غيره قياس ممنوع، من مخالفته للأصل، ولعموم ما دلّ علي الإباحة، وقيل بالتعدية نظراً إلي العلّة المومي إليها بقوله «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» فيكون من قبيل منصوص العلّة، وإمكان حمل البيع في الآية علي

المعاوضة المطلقة التي هي معناه الأصلي، ولأنّ الأمر بالسعي يستلزم النهي عن كلّ ما ينافيه، ويكون تخصيص البيع بالذكر جرياً علي الغالب لا لكونه هو المقصود بالتحريم لا غير، وفيه نظر، لأنّه علي تقدير تسليم حجيّة منصوص العلّة نقول: إنّ العلّة هنا غير ظاهرة، وحمل البيع علي المعاوضة المطلقة خلاف المعني الشرعي والعرفي، والأمر لا يستلزم النهي عن الإضداد الخاصة، كما حقّق في الاصول، ولو سلّم فإنّما يقتضي تحريم المنافي خاصةً لا مطلق المعاوضات.

الثالث: لو باع أثمّ، وكان البيع صحيحاً، لأنّ العقد صدر عن أهله

__________________________________________________

(1) كما في التذكرة 4/ 110، والمنتهي 1/ 331، والحدائق الناضرة 10/ 175.

(2) المعتبر 2/ 297 قال: الأشبه بالمذهب، خلافاً لطائفة من الجمهور. لنا اختصاص النهي بالبيع فلا يتعدّي إلي غيره.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 140

وأمّا البحث الثاني عشر، أي وجه الخيرية فهو: إنّ السعي معجّلًا إلي صلاة الجمعة موجب لاستماع الخطبة ممّا هو مستجمع للجهات النوعية والشخصية، الدنيوية والأخروية، ويتقوّم به النظام المدنيّ والسياسي، لأنّهم يتعلّمون المسالك إلي اللَّه تعالي وكيفيّة المعاشرة مع الأهل والأولاد وسائر الناس، ويفيدهم للمعاد والمعاش والأخلاق والمعارف، وكذا بسبب اجتماعهم لصلاة الجمعة يعلم كلّ حال أخيه من سائر المسلمين ويتعظمون في أعين الناس من مخالفهيم، لأنّهم يرون اتّحادهم الموجب لتقويتهم [1].

فيجب الوفاء به، ولعموم ما دلّ علي صحة البيع ولزومه، والآية إنّما دلّت علي التحريم لا نفي الصّحة، لأنّ النّهي في المعاملات لا يستلزم الفساد، وقال بعض أصحابنا وبعض أهل الخلاف بعدم الصحة، بناءً علي القول بأنّ النّهي في المعاملة كان موجباً للفساد.

الرابع: لو كان أحد المتعاقدين ممّن لا تجب عليه الجمعة، قيل اختص الآخر بالتحريم، ولا يبعد شمول التحريم له للمعاونة علي الإثم» «1».

[1] قال الشيخ

أحمد الجزائري: «قوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» أي ذكر

__________________________________________________

(1) قلائد الدرر 1/ 220.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 141

واعلم: أنّه لا يستفاد من قوله «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» الإستحباب، كما زعمه بعض المحرّمين في عصر الغيبة حيث قال: الوجه الخامس:

قوله تعالي «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» كأنّه صريح في الإستحباب، فإنّه لا يناسب في مقام الأمر بأهمّ الواجبات التعبير بأنّ فعله خيرٌ من تركه.

فإنّ الخير المستعمل في كلام اللَّه تعالي ليس دالّاً علي الإستحباب، بل المراد به كونه خيراً من ناحيته سبحانه، ألا تري قوله تعالي في آخر السّورة «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» وقوله «وَلِباسُ التَّقْوي ذلِكَ خَيْرٌ» «1»

وغيرهما من ساير الآيات.

هذا، مضافاً إلي أنّه يلزم هذا القائل، القول باستحباب صلاة الجمعة في زمن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، وهو خلاف الإجماع،

اللَّه أو السعي وترك البيع، لأنّ الآخرة خيرٌ وأبقي «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي من أهل العلم والعرفان، أو بما يترتب علي ذلك وما عنداللَّه من الخير» «2».

__________________________________________________

(1) سورة الأعراف، الآية: 26.

(2) قلائد الدرر 1/ 222.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 142

فإنّها نزلت في زمن وجوبها العيني في عصر النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، فمن أين يتوهم الإستحباب؟

هذا، ولا يخفي أنّ الوجه الذي ذكره القائل- علي فرض صحّته- دليل الإستحباب، لا التحريم الذي ادّعاه المستدل واستدلّ به علي الحرمة.

وأمّا البحث الثالث عشر، أعني سبب الإتيان بلفظ الشرط «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» مع أنّهم سواء علموا أم لم يعلموا، كان ذلك خيراً، فقيل: ليس بشرط وإن كان ظاهره ذلك، بل معناه (اعلموا). لكنّ الأصح أنّ الجواب ليس «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» بل شي ء محذوف، تقديره (لفعلتم) أو (لصدقتم) أو نحوهما ممّا يجري مجراهما، وهذا كما تقول لابنك:

إذهب إلي المحلّ الفلاني، فإنّه خير لك إن كنت تعلم، تريد: إن كنت تعلم وجه الخيرية لذهبت أو لصدّقت، وهذا إشارة إلي جهلهم، كما أنّ الشرط كذلك في المثال.

الرابع عشر: وجه قوله تعالي «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» دون (تفقهون) أو نحو ذلك [1]. هو إنه إذا كانت الجملة (إن كنتم تفقهون) أي إن

[1] قال صدر المتألّهين «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي ما أمرتم به من حضور الجمعة واستماع الذكر وأداء الفريضة وترك البيع

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 143

كنتم تفهمون، كانت كتعريض لهم، وهذا لا يناسب المقام، لأنّه صلي اللَّه عليه وآله بصدد دعوتهم.

«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اْلأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ».

إعلم أنّه يقع البحث في هاتين الآيتين من وجوه:

الأوّل: وجه التعبير ب «قضيت» دون تمت وغيرها.

الثاني: وجه قوله «فَانْتَشِرُوا» وما يتعلّق به.

الثالث: وجه قوله في الأرض وما أريد التصريح به.

الرابع: ما يستفاد من قوله «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ».

أنفع لكم عاقبة إن كنتم عالمين بمنافع الأمور ومضارّها، ومصالح أنفسكم وأرواحكم ومفاسدها.

وفيه دليل علي أنّ ملاك الأمر في العبادات علي العلم الصحيح والنيات الخاصة، وقيل: معناه «إعلموا» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 255.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 144

الخامس: وجه الإتيان بلفظة «فَضْلِ» دون وابتغوا من اللَّه.

السادس: سبب الأمر بالذكر.

السابع: وجه قوله «كَثيرًا».

الثامن: معني «لعلّ» وما يستفاد منه.

التاسع: بيان ما يمكن أن يستفاد من الآية ممّا يتعلّق بصلاة الجمعة.

العاشر: وجه الرّبط بين الآية الثانية والأولي.

الحادي عشر: وجه نزول الآية الثانية.

الثاني عشر: سبب قوله «رَأَوْا».

الثالث عشر: وجه الإتيان بكلمة «لَهْوًا».

الرابع عشر: معني

«انْفَضُّوا» ووجه التعبير به.

الخامس عشر: وجه قوله «إِلَيْها» دون إليهما.

السادس عشر: سبب تقدّم «اللَّهْوِ» علي التّجارة في الثاني وتأخّره في الأوّل.

السابع عشر: وجه تكرار «من».

الثامن عشر: وجه قوله «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ».

أمّا الوجه الأوّل: فالتعبير ب «قضيت» [1] لفائدتين:

[1] قال الفاضل المقداد السيوري: «المراد هنا بقضاء الصّلاة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 145

الأولي: إنّ وقت صلاة الجمعة محدود إلي وقت تمامها لا يمكن تأخيرها عن وقتها المعين الذي هو بعد الخطبتين المعقبتين للنداء إلي مقدار زمان يمكن أداؤها فيه، كما هو مذهب جماعة من الفقهاء «1»، وإنّما يستفاد منها هذه لأنّ هذا المعني أحد معاني القضاء لغةً، كما في مجمع البحرين حيث صرَّح به في تعداد معاني القضاء «2».

أداؤها، فإنّ القضاء يقال علي معان ثلاثة:

الأوّل: بمعني الفعل والإتيان بالشي ء، وهو المراد هنا.

الثاني: فعل العبادة ذات الوقت المحدود المعيّن بالشخص خارجاً عنه.

الثالث: فعل العبادة إستدراكاً لما وقع مخالفاً لبعض الأوضاع المعتبرة فيها، وقد يسمّي هذا إعادة، والمراد بالإنتشار في الأرض التفرّق في جهاتها، والإبتغاء الطلب.

وهنا فوائد:

(1) اللام في الصلاة للعهد، أي الصلاة التي تقدّم ذكرها، وهي التي

__________________________________________________

(1) كما في مجمع الفائدة والبرهان 2/ 369، ومستند الشيعة 6/ 120.

(2) مجمع البحرين 1/ 343.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 146

وجب السّعي إليها.

(2) إختلف الأصوليون في الأمر الوارد عقيب النهي، هل هو للوجوب أو للإباحة الرافعة للحظر؟ واحتج أصحاب القول الثاني بهذه الآية وهي «فَانْتَشِرُوا فِي اْلأَرْضِ»، فإنّه أطلق لهم ما حرمه من المعاملة، والإنتشار ليس بواجب إتّفاقا، وكذا قوله «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» «1».

(3) في الأمر بالإنتشار، إشارة إلي كون الساعي الذي وجبت عليه الجمعة ممّن له القدرة علي التصرف في المعاش والإضطراب في طلب الرزق، وكذا إذا فسّرنا

السعي بالإسراع في المشي، ولما لم يكن الهم، أي الشيخ الكبير والأعرج والمريض والأعمي كذلك، دلّ علي عدم الوجوب عليهم وكونهم غير مخاطبين بها.

(4) الإبتغاء من فضل اللَّه هو طلب الرزق، وعن الصّادق والباقر عليهما السّلام «الصّلاة يوم الجمعة، والإنتشار يوم السّبت» «2».

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 222.

(2) الخصال: 393، ومن لا يحضره الفقيه 1/ 424 باب كراهة السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة، الرّقم 1253.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 147

الثانية: لزوم الإهتمام بها واستحكامها، يقال: قضي الشي ء، أي صنع بإحكام، كما في المنجد «1».

أمّا الوجه الثاني: أي وجه التعبير بقوله «فَانْتَشِرُوا» دون «سيروا»، فهو إفادة لزوم التفرق وذهاب كلٍّ إلي عمله حتّي يتقوّم النظام، بخلاف ما لو قال «فسيروا»، فإنّه مع قطع النظر من ظهوره في السفر، يلائم الإجتماع وبه يختل النظام [1]، وبخلاف ما لو قال

وقيل: المراد طلب العلم، عن سعيد بن جبير والحسن، وروي أنس عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله: «ليس هو بطلب دنيا ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة وزيارة أخ في اللَّه» «2». «3»

[1] قال الشيخ أحمد الجزائري: «الأمر هنا بالإنتشار للإباحة إجماعاً، كما في قوله «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» «4»

وقوله «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ» «5»

وبذلك استدلّ من قال بأنّ الأمر الوارد عقب النهي للإباحة الرافعة للحظر، ومن قال بأنّه للوجوب، استدلّ بكونه الأصل في كلّ أمر

__________________________________________________

(1) المنجد، كلمة «قضي».

(2) مجمع البيان 10/ 14، وقد نقل عنه عوالي اللئالي 2/ 56.

(3) كنز العرفان 1/ 170.

(4) سورة المائدة، الآية: 2.

(5) سورة البقرة، الآية: 222.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 148

«فتفرقوا»، فإنّ ظاهره مفارقة كلّ عن صاحبه فقط، والإنتشار المفارقة مع ذهاب كلّ إلي عمله، مع ما فيه من الإشارة إلي الترخيص لمن أتي من الخارج للصّلاة

بالرجوع إلي محلّه، يقال: إنتشر الرجل أي ابتدأ سفره.

والظاهر من الآية الإنتشار بعد الصّلاة ببطء لمكان الفاء، وهو المروي عن أبي عبداللَّه عليه السّلام فإنّه قال: «الصّلاة يوم الجمعة والإنتشار يوم السبت» «1».

واعلم أنّه تعالي أتي بالأفعال مبنية للمعلوم، إلّاقوله «قُضِيَتِ» فأتي للمفعول إشارة إلي تعظيم الصّلاة، وعدم الإعتناء بشأن الفاعلين قبالها، كما يقال: قتل زيد، إذا اريد تعظيمه وعدم الإعتناء بشأن القائلين له.

إلّا ما خرج بدليل، كالإجماع بالنسبة إلي الآية المذكورة، وفي الآية دلالة علي أنّ من وجبت عليه الجمعة، هو من كان قابلًا لتوجّه الخطاب إليه وفيه قدرة علي الإنتشار. فيخرج المريض والأعمي والشيخ الهمّ والمجنون والصغير «2».

__________________________________________________

(1) الخصال: 393، ومن لا يحضره الفقيه 1/ 424 باب كراهة السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة، الرّقم 1253.

(2) قلائد الدرر 1/ 224.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 149

وأمّا الوجه الثالث، أعني وجه التصريح بقوله «فِي اْلأَرْضِ» مع أنّه لازم الإنتشار فهو: تأكيد للكلام بالمطابقة بعد الإلتزام، وإنّ الغرض ليس تفرّق بعضهم عن بعض، كما في قوله تعالي «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» «1»

فإنّ الغرض في هذا المقام تفرّق بعضهم عن بعض بالخروج من عند النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، بل الغرض فيما نحن فيه إكتساب المعيشة. ولما كان الأمر للوجوب أفاد وجوب الإنتشار بظاهره، ويعلم كونه كفائياً من الخارج وليس للترخيص، كما ذكره بعض المفسّرين، فتدبّر [1].

[1] وفي ذلك إشارة إلي أنّ الطالب لا ينبغي أن يعتمد علي سعيه وكدّه، بل علي فضل اللَّه ورحمته وتوفيقه وتيسيره، طالباً ذلك من اللَّه، وروي عن أبي عبداللَّه عليه السّلام أنّه قال: «الصّلاة يوم الجمعة والإنتشار يوم السبت». وروي عمر بن يزيد عن أبي عبداللَّه عليه السّلام: «إنّي لأركب في الحاجة التي

كفاها اللَّه، ما أركب فيها إلّاالتماس أن يراني اللَّه أضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول اللَّه عز وجل «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اْلأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»؟ «2»

__________________________________________________

(1) سوره الاحزاب الاية 53.

(2) آيات الاحكام اللاسترآبادي 260

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 150

وأمّا الوجه الرابع، أي ما يستفاد من قوله «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»: فهو عدم صحّة الإعتماد علي الإكتساب والأسباب الظاهرية، بل لا بدّ من التوجه إلي عالم الغيب، فإنّه تعالي المؤثر الوحيد في الكون.

وهيهنا نكتة لطيفة: وهي، إنّه لما كانت هذه النشأة دار الأسباب وأبي اللَّه أن يجري الأمور إلّابأسبابها فلابدّ من الإقدام في كلّ شي ء بماله من الأسباب، وحيث إنّ الاتكال علي تأثير هذا الأسباب شرك، فلا بدّ من التوحيد والاعتماد علي المؤثر الحقيقي، فعلي العاقل، الجمع بين الأمرين الظاهري والحقيقي، فيشتغل بالعلم أو الكسب من جهة، ويتّكل علي ربّه ويبتغي من فضله من جهة أخري، أو يحضر جنازة مؤمن أو يعود مريضاً أو يزور أخاً للَّه تعالي الموجب لترشح فضله تعالي، وهذا طريق الجمع بين الفريقين من الأخبار الدّال بعضها علي أنّ الابتغاء من فضله ليس بطلب الدنيا، وبعضها علي أنّه طلب الرزق والكسب.

وأمّا الوجه الخامس، أعني وجه الإتيان بلفظة (فضل)، فهو:

إفادة عدم استحقاقهم شيئاً، بل طلبهم علي وجه الإستعطاء كالفقراء، لا كالمطالب، فإنّ الأنام وإن عبدوه حقّ عبادته لا يستحقون شيئاً، لأنّهم عبيد والعبد لا يستحق شيئاً، بل هو وماله لمولاه، كيف؟ وإنّهم لا يتمكنون من شكر نعمة واحدة فقط وإن كانوا يفعلون الواجبات

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 151

والمندوبات ويجتنبون عن المحرمات والمكروهات، فإنّ لكلّ شكر شكراً، كما قال الشاعر:

شكراً وأنّي لي بلوغ ما وجب من الشكر والشكر للشكر سبب

وأمّا الوجه

السادس أعني سبب الأمر بالذكر، فهو: إفادة عدم تخصيص الذكر بوقت الصلاة، بل هو لازم في كلّ حال، فإنّه لا ينافي الإكتساب، كما قال تعالي «رِجالٌ لاتُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» «1»

وأيضاً ذكر اللَّه سبب ذكره لهم، كما قال «فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ» «2»

ومن كان اللَّه ذاكراً له لم يخسر، كما هو ظاهر.

والظاهر: أنّ المراد اذكروا اللَّه، لساناً وقلباً، وبه يجمع بين تفسيره بالتفكر وباللسان، وفي المجمع عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله إنّه قال: من ذكر اللَّه في السّوق مخلصاً عن غفلة الناس، وشغلهم بما فيه، كتب له ألف حسنة، ويغفر اللَّه له يوم القيامة مغفرة لم تخطر علي قلب بشر «3» [1].

[1] قال الفاضل المقداد السيوري: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا» علي

__________________________________________________

(1) سورة النور، الآية: 37.

(2) سورة البقرة، الآية: 152.

(3) مجمع البيان 10/ 14.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 152

وأمّا الوجه السابع، أعني وجه قوله «كثيراً» فهو: إفادة أنّ الذكر في بعض الأوقات غير مجد، لأنّه ربما استولي عليه الغفلة حين لم يذكر، كما نشاهد في غالب الكسبة والتجار، فإنّهم في أوّل ما يريدون الجلوس في محلّهم أو فتح حانوتهم يذكرون اللَّه، ثمّ يغفلون عنه تعالي، ويستغرقون في أمر الدنيا، فتوسوس إليهم الشياطين.

إحسانه إليكم بالتوفيق، وقيل المراد بالذكر: الفكر، كما قال النّبي صلّي اللَّه عليه وآله «فكرة ساعة خير من عبادة سنة» «1» وقيل: أذكروا اللَّه في تجارتكم، وليس بعيداً من الصواب أن يكون المراد وابتغوا من فضل اللَّه: واذكروا أوامر اللَّه ونواهيه في طلب الرزق، فلا تأخذوا إلّاما حلّ لكم أخذه لا ما حرم لكم، أو يكون المراد: الذكر حال العقد، فإنّه يستحب التكبير عنده والشهادتان «2»، واللَّه أعلم.

وقال الشيخ أحمد الجزائري: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا»

أي علي إحسانه إليكم بالتوفيق والألطاف، أو المعني اذكروه في تجارتكم وأسواقكم، أو اذكروا أوامره ونواهيه عند طلب الرزق. فلا تأخذوا إلّاما حلّ «3».

__________________________________________________

(1)

بحار الأنوار 68/ 326.

(2) كنز العرفان 1/ 171.

(3) قلائد الدرر 1/ 224.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 153

وأمّا الوجه الثامن، أعني معني «لعلّ»، فاعلم: أن لعلّ معناه لغة الإرتقاب، ويدخل فيه الطمع والإشفاق، فالطمع إرتقاب شي ء محبوب، نحو لعلّ زيداً يقوم، والإشفاق إرتقاب شي ء مكروه، نحو لعلّ زيداً يموت الساعة. ولا تدخل لعلّ علي متحقق الوقوع، فلا يقال: لعلّ الشمس تغرب، ولا علي متحقق العدم، فلا يقال: لعلّ الشباب يعود لنا.

وأمّا (لعلّ) الواقع في كلامه تعالي، فقد اختلف الكلام فيه، لأنّه تعالي إمّا عالم بوجود مدخوله بعد، أو عالم بعدمه، لاستحالة جهله بشي ء جلّ عن ذلك، وكلاهما ينافي «لعلّ» لما ذكر. وتفصّي كلّ بوجهٍ:

فذهب أبو علي وقطرب: إلي أنّ معناها التعليل، فمعني «افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، لترحموا. لكن لا يصح هذا بالنسبة إلي قوله تعالي «وَما يُدْريكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَريبًا» «1»

إذ لا معني للتعليل فيه.

وقال بعضهم: هي لتحقيق مضمون الجملة التي بعدها.

ولا يستقيم ذلك بالنسبة إليها في قوله تعالي في قصة فرعون «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشي » «2»

، إذ لم يتذكّر ولم يخش.

وأورد عليه: بأنّه آمن بعد ذلك، فكأن التّذكر حصل منه، إذ قال

__________________________________________________

(1) سورة الشوري، الآية: 17.

(2) سورة طه، الآية: 44.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 154

«آمَنْتُ أَنَّهُ لاإِلهَ إِلَّا الَّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائيلَ» «1»

، وأجيب: بأنّ إيمانه وتوبته عن يأسٍ لا معني تحققها، ولو كان تذكراً حقيقياً لقبل منه.

وعندي فيه نظر إذ لم يظهر لي وجه عدم الحقيقيّة. وأمّا عدم قبول توبته فليس لعدم الحقيقة، بل لأنّ التوبة كانت وقت مشاهدة الموت

وهي لا تنفع، كما قال اللَّه تعالي «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ» «2».

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الظاهر من قوله تعالي «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشي » «3»

التذكر والخشية بسببك، لا مطلق التذكر والخشية.

هذا، والحق فيها ما قاله سيبويه من تعلّق الرجاء والإشفاق بالمخاطبين، لأنّ الأصل عدم خروج الكلمة عن معناها الأوّلي، وبعبارة أخري: إنّ كلمة (لعلّ) لبيان أنّ مدخولها معرض للحصول والوقوع.

فيكون المعني في الآية إنّ ما ذكر من الأمور مقتضي الفلاح، لكن ليس علّةً تامّةً له بقول مطلق، بل لا بدّ من اجتماع سائر الشرائط المجتمعة في قوله «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ … » «4»

وقوله «إِنَّمَا

__________________________________________________

(1) سورة يونس، الآية: 90.

(2) سورة غافر، الآية: 84- 85.

(3) سورة طه، الآية: 44.

(4) سورة المؤمنون، الآية 1.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 155

الْمُؤْمِنُونَ» «1»

…، فيكون ما ذكر جزء السبب لا يفلح بدونه.

ويستفاد من قوله «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» إحتياجهم إلي الفلاح وأنّهم ليسوا بمفلحين قبل ذلك [1].

[1] «لعلّ» من الحروف المشبهة بالفعل، تنصب الإسم وترفع الخبر، وفيها ثمانية وعشرون لغةً، وتختص بالممكن الذي لا وثوق بحصوله، ولها معانٍ 1- للتوقع وترجي المحبوب «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2»

2- للإشفاق من مكروهٍ أو مخوفٍ، كقول فرعون «لَعَلّي أَبْلُغُ اْلأَسْبابَ» «3»

3- للتعليل «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشي » «4»

4- للإستفهام «وَما يُدْريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّي» «5»

5- للطمع، «لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ» طمع قوم فرعون. 6- للظن: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحي إِلَيْكَ» «6»

أي يظن بك الناس ذلك. 7- بمعني (كي): «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «7»

. 8- للشك واللام في أوّلها زائدة بمعني عل «وَإِنْ أَدْري لَعَلَّهُ

__________________________________________________

(1) سورة الأنفال، الآية: 2.

(2) سورة الأنفال، الآية 45، وسورة الجمعة،

الآية: 10.

(3) سورة غافر، الآية: 36.

(4) سورة طه، الآية: 44.

(5) سورة عبس، الآية: 3.

(6) سورة هود، الآية: 12.

(7) سورة البقرة، الآية: 21 و 63 و.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 156

وأمّا الوجه التاسع: أعني ما يمكن أن يستفاد من الآية ممّا يتعلق بصلاة الجمعة وهو أمور:

الأوّل: الخطبة إجمالًا، لقوله تعالي «فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» وقد سبق مفصّلًا.

الثاني: إسماع الخطبة.

الثالث: قيام الخطيب.

الرابع: الجماعة.

الخامس: العدد وهو خمسة، أحدهم المؤذّن أعني المنادي،

فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلي حينٍ» «1» «وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ في رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها» «2»

؛ ولعلّ من اللَّه تحقيق: «لَعَلَّ السَّاعَةَ قَريبٌ» «3» «4»

وفي حديث حاطب قال صلّي اللَّه عليه وآله: وما يدريك يا عمر لعلّ اللَّه اطلع علي أهل بدر، فقال لهم: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «5».

__________________________________________________

(1) سورة الانبياء الاية 111

(2) سورة يوسف الاية 62

(3) سوري الاية 17

(4) راجع مختار الصحاح المفردات المعني القاموس تاج العروس النهاية مصباح اللغه مجمع البحرين المنجد

(5) البحار 21/ 94- 95 و سنن أبي داود 2/ 45 كتاب الجهاد باب في حكم الجاسوس إذكامسلمأ.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 157

والثاني الإمام، وثلاثة اخر لقوله «فاسعوا» فإنّ أقلّ الجمع ثلاثة.

السادس: الوقت، أعني كونه محدوداً بين الزوال إلي أن تتمّ الأفعال متعقّباً لما ذكر في «قضيت».

السابع: وحدة المكان.

الثامن: وضعها عن الصبي والمجنون، لعدم إمكان توجّه الخطاب إليهما لعدم التكليف.

التاسع: وضعها عن المريض والشيخ والأعرج والأعمي، لعدم إمكان السّعي بأنفسهم، بل يحتاجون إلي شخص آخر، فالأمر بالسّعي لا يشملهم.

العاشر: وضعها عمّن هو علي فرسخين أو أكثر، لمشقّة السفر منضمّاً إلي قوله تعالي «يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «1».

وأمّا وجوب السّعي علي من كان أقرب، فللسنّة.

الحادي عشر: وضعها عن العبد، لأنّه لا

يملك البيع، والأمر للبائعين لأنّه كالآلة للبيع.

الثاني عشر: وضعها عن المرأة، لأنّها لا تتمكن من الإنتشار ولا تكليف بها بالصّلاة، والمأمورون بالإنتشار هم المأمورون بالسعي.

الثالث عشر: وضعها عن المسافر، لعدم الأمر بالإنتشار به.

ولا يخفي أنّ ما ذكر من وجوبها علي البائع أعمّ من البائع

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 185.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 158

بالفعل أو بالقوة، أعني الذي يمكنه البيع حالًا وإن لم يكن متلبّسا به، فيجب السّعي علي من لا يشتغل أصلًا مع إجتماع سائر الشروط فيه.

وأمّا الوجه العاشر، أعني وجه الربط بين قوله تعالي «وَإِذا رَأَوْا» والآية السابقة فهو: إنّه لما أمر بالسعي إلي ذكر اللَّه أراد أن يبين عدم كفاية الذهاب إليه فقط، بل يجب البقاء إلي آخر الأعمال، ويحرم الخروج في أثناء صلاة الجمعة [1].

[1] عن قتادة: بينما رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يخطب الناس يوم الجمعة، فجعلوا يتسلّلون ويقومون حتّي بقيت منهم عصابة، فقال: كم أنتم؟ فعدّوا أنفسهم فإذا إثنا عشر رجلًا وامرأة، ثمّ قام في الجمعة الثانية فجعل يخطبهم، قال سفيان: ولا أعلم إلّاأنّ في حديثه ويعظهم ويذكرهم، فجعلوا يتسلّلون ويقومون حتّي بقيت عصابة فقال كم أنتم؟ فعدّوا أنفسهم، فإذا إثنا عشر رجلًا وامرأة، ثمّ قام في الجمعة الثالثة فجعلوا يتسلّلون ويقومون حتّي بقيت منهم عصابة، فقال كم أنتم؟ فعدّوا أنفسهم فإذا إثنا عشر رجلًا وامرأة فقال (والذي نفسي بيده لو اتبع آخركم أوّلكم لالتهب عليكم الوادي ناراً، وأنزل اللَّه عزّ وجل «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الطبري 28/ 104.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 159

وأمّا الوجه الحادي عشر، أي وجه نزول هذه الآية، ففي الصافي عن القمي قال: «كان رسول اللَّه صلّي اللَّه

عليه وآله يصلّي بالناس يوم الجمعة، ودخلت ميرةٌ وبين يديها قومٌ يضربون بالدفوف والملاهي، فترك الناس الصّلاة ومروا ينظرون إليهم، فأنزل اللَّه الآية».

وفيه عن المجمع عن جابر بن عبداللَّه قال: «أقبلت عيرٌ ونحن نصلّي مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الجمعة، فانفضّ الناس إليها، فما بقي غير إثني عشر رجلًا أنا فيهم، فنزلت الآية «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا» «1» «2»

وقيل: كان الرسول صلّي اللَّه عليه وآله خطيباً» [1].

[1] قال صدر المتألهين (تركوه قائماً ايثاراً لهذا الخسيس الدني علي الشريف العلّي، نظير ذلك ما وقع لهم في ترك النجوي مع الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله حين أوجبت عليهم الآية صدقة يسيرة حبة أو شعيرة، ففوّتوا ذلك الأمر العظيم بإمساك هذا التراب الرميم، لما روي أنّهم أكثروا مناجاة الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله بما يريدون، حتّي الموت وأبرموه، فنزلت «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

__________________________________________________

(1) الصافي 5/ 176.

(2) مجمع البيان 10/ 11.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 160

رَحيمٌ* ءَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ … » «1».

وأمروا بأنّ من أراد أن يناجيه صلّي اللَّه عليه وآله قدّم قبل مناجاته صدقة.

وعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لمّا نزلت، دعاني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فقال: ما تقول في دينار؟ قلت لا يطيقونه، قال: كم؟

قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنّك لزهيد، فلمّا رأوا ذلك اشتد عليهم فارتدعوا وكفّوا عن النّجوي حتي نسخت عنه صلّي اللَّه عليه وآله» «2».

وعنه عليه السّلام: «إنّ في كتاب اللَّه لآية ما عمل بها أحدٌ قبلي، ولا يعمل بها أحدٌ

بعدي، كان لي دينار فصرفته بعشر دراهم، فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم، فانظر في هذه الحكاية بنظر التأمل حتّي تعلم أنّ أهل المودة الأخروية في غاية القلّة والندورة بالنسبة إلي أهل المودّة الدنيوية، وإنّ عدد طالب الحقّ بالنسبة إلي طالب الهوي كعدد الشعرة البيضاء في جلد البقرة السوداء» «3» «4».

__________________________________________________

(1) سورة المجادلة، الآية: 12- 13.

(2) الدر المنثور 6/ 185.

(3) تفسير القمي: 670.

(4) تفسير صدر الدين الشيرازي 7/ 283- 284.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 161

وأمّا الوجه الثاني عشر، أي سبب قوله «رأوا»، فيمكن أن يكون بمعني أبصروا أي بأعينهم، لأنّه كان جدار المسجد كما نقل مقدار قامة يمكن النظر إلي خارج المسجد، أو كان المسجد في محلّ منخفض والتّجار في محلٍّ مرتفع يمكن النظر، لكن علي هذا يكون استعمال اللّهو والتّجارة في أسبابها مجازاً، لإستعمال المسبّب مكان السّبب. ويمكن أن يكون بمعني (علموا) فلا يحتاج إلي ما ذكر من فرض جدار المسجد مقدار قامة أو فرضه منخفضاً، فتدبّر.

وأمّا الوجه الثالث عشر أعني وجه الإتيان بكلمة (لهواً)، فهو:

خروج بعضهم للتجارة وبعضهم للهو، كما عن بعض، أو إفادة خسّة طبعهم، فكأنّه إضراب، ويكون قوله «أو لهواً» إظهار رذالة نفسهم بأنّهم في هذه المرتبة من الخسة، وهو تركهم الصّلاة للهو [1].

وأمّا الوجه الرابع عشر، وهو معني «انفضوا» [2]، فالظاهر أنّه

[1] قال الفاضل المقداد السيوري: (اللهو) هو الطبل، وفي الأصل اللهو كلّ ما ألهي عن ذكر اللَّه «1».

[2] عن أبي عبداللَّه عليه السّلام في معني «انْفَضُّوا إِلَيْها»

__________________________________________________

(1) كنز العرفان 1/ 172.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 162

بمعني «هجموا» كالجراد، لا الميل كما فسّره بعض. وهذا المعني لا يستفاد من نحو خرجوا أو تفرّقوا ونحوهما، ولذا أتي به للدلالة علي حالهم حين الخروج لشدّة

حرصهم علي التّجارة واللّهو وعدم اعتنائهم بالصلاة والذّكر، وقد ورد عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله:

«لولا هؤلاء- أي الحاضرين، وهم اثنا عشر أو أحد عشر- لسومت عليهم الحجارة من السماء» «1»، وهو يدلّ علي غضب اللَّه عليهم.

وأمّا الوجه الخامس عشر، أي وجه إفراد الضمير في «إليها» [1]

إنصرفوا إليها «2». «وَتَرَكُوكَ قائِمًا» تخطب علي المنبر «3».

[1] وقيل: الضمير للتجارة من غير تقدير آخر، لأنّ المراد إذا رأوها تجارة وعلموها أو لهواً دالّاً عليها فظنوها إنفضّوا إليها وقدم التّجارة أوّلًا للتّرقي باللّهو، إذ لا فائدة لهم فيه بخلافها، فالذمّ علي الإنصراف أولي وأقوي، وآخرها ثانياً للترقي بها، فإنّ كون ما عند اللَّه من الثواب علي سماع الخطبة وحضور الموعظة والصّلاة والثبات مع النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أو من خير الدنيا والآخرة خيراً من التجارة، أبلغ من كونه خيراً من اللّهو الذي لا فائدة فيه إلّاوهماً، ولعلّ التفضيل أيضاً بناءً

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 11.

(2) تفسير البرهان 4/ 336.

(3) مجمع البيان 10/ 15.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 163

مع ذكر شيئين: التجارة واللّهو، فهو: خروجهم لأجل التجارة [1] وهذا يؤيّد ما ذكرناه في سبب الإتيان بكلمة (لهواً).

وقيل: في الكلام حذف، تقديره وإذا رأوا تجارة إنفضّوا إليها،

علي وهمهم ليناً ومماشاة وتخلّقاً معهم، «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ» فيرزقكم إن لم تتركوا الخطبة والجمعة خيراً ممّا يرزقكم مع الترك، أو خيراً ممّا ترجون من التّجارة ونحوها، وقيل: أي يرزقكم وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة، و (خير الرازقين) من قبيل (أحكم الحاكمين) و (أحسن الخالقين) أي إن أمكن وجود الرازقين فهو خيرهم، وقيل:

الإطلاق علي غيره بطريق المجاز، ولا ريب أنّ الرازق بطريق الحقيقة خير من الرازقين بطريق المجاز «1».

[1] قال صدر المتألّهين: إعلم أنّ دعوي كون ما

عنداللَّه خيراً من اللّهو الذي هو لذّة القوّة الحسّية وشهوة النفس البهيميّة، ومن التجارة التي هي لذّة القوّة الخياليّة والنفس السبعيّة، إذ بها يحصل الجاه والحشمة، ممّا يشكل إثباته علي أكثر الناس، لغلبة التجسّم عليهم وكثافة الحجاب فيهم، فإنّ كون معرفة اللَّه وصفاته ومعرفة ملكوت سماواته وأسرار ملكه أعظم من لذّة الرياسة وساير المرغوبات ممّا يختص دركه

__________________________________________________

(1) آيات الأحكام للإسترآبادي: 262.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 164

وإذا رأوا لهواً إنفضوا إليه. وقيل: الضمير علي سبيل البدل كقوله في قصّة عزير، «فَانْظُرْ إِلي طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ» «1»

. وليس بشي ء، لإمكان إرجاع الضمير في القصّة إلي كلّ واحدٍ منهما بخلافه في «انْفَضُّوا إِلَيْها» فلا يصلح الضمير لرجوعه إلي اللّهو.

وأمّا الوجه السادس عشر، أي سبب تقديم التّجارة في الأوّل وتأخيرها في الثاني، فهو الدّلالة علي خسّة طبعهم في الأوّل، كما تقول: زيد يكذب بدينار، بل بدرهم، فكأنّه إضراب كما تقدّم، وعلي حسن ما عنداللَّه في الثاني، كما تقول: هذا أحسن من الدّرهم ومن الدّينار، إذا أردت بيان رذالته في الأوّل وحسنه في الثاني.

وأمّا الوجه السابع عشر، أعني وجه تكرار «من»، فهو: إفادة الإضراب الذي ذكر، بخلاف ما إذا لم يتكرّر، فلا يفهم منه بل كان يفهم إستواؤهما، كقولك: هذا أفضل من زيد وعمرو، وهذا أمر ذوقي مرجعه الوجدان، فلا يحتاج إلي بيان.

بمن نال رتبة المعرفة، وذاق مشرب الحكمة، ولا يمكن إثباته علي من لا قلب له، لأنّ القلب معدن هذه القوّة … «2».

__________________________________________________

(1)

سورة البقرة، الآية: 359.

(2) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 290.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 165

وأما الوجه الثامن عشر: أعني سبب قوله «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ»، فهو: تنبيههم إلي أنّ الرّزق بيد اللَّه يؤتي كلّ أحدٍ نصيبه، فلا يحتاج

إلي التجشم والتعب، وأنّه لا يفوت أحداً رزقه بسبب الذكر [1] وله الحمد أوّلًا وآخراً.

[1] وقوله: «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ» أمرٌ للنّبيّ أن ينبّههم علي خطأهم فيما فعلوا- وما أفظعه- والمراد بما عنداللَّه، الثواب الذي يستعقبه سماع الخطبة والموعظة.

والمعني قل لهم: ما عنداللَّه من الثواب خيرٌ من اللّهو ومن التّجارة، لأنّ ثوابه تعالي خيرٌ حقيقي دائم غير منقطع، وما في اللّهو والتّجارة من الخير أمرٌ خيالي زائل باطل، وربما استتبع سخطه تعالي كما في اللّهو.

وقيل: خير مستعمل في الآية مجرّداً عن معني التفضيل، كما في قوله تعالي «ءَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» «1»

، وهو شائع في الإستعمال، وفي الآية أعني قوله: «وَإِذا رَأَوْا» إلتفات من الخطاب إلي الغيبة، والنكتة فيه تأكيد ما يفيده السياق من العتاب واستهجان الفعل بالإعراض عن تشريفهم بالخطاب، وتركهم في مقام الغيبة لا يواجههم

__________________________________________________

(1) سورة يوسف، الآية: 39.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 166

ربّهم بوجهه الكريم.

ويلوّح إلي هذا الإعراض قوله: «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ» حيث لم يشر إلي من يقول له، ولم يقل: قل لهم كما ذكرهم بضميرهم أوّلًا من غير سبق مرجعه فقال: «وَإِذا رَأَوْا» واكتفي بدلالة السياق.

و «خَيْرُ الرَّازِقينَ» من أسمائه تعالي الحسني كالرازق «1».

خلاصة موضوعات السورة

1. وصفه تعالي نفسه بصفات الكمال.

2. صفات النّبي الأمّي الذي بعثه اللَّه رحمةً للعالمين.

3. النعي علي اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.

4. طلب مباهلة اليهود.

5. الحث علي السّعي للصّلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام علي المنبر.

6. الأمر بالسعي علي الأرزاق بعد انقضاء الصّلاة.

7. عتاب المؤمنين علي تركهم النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهو يخطب قائماً، وتفرّقهم لرؤية التّجارة أو اللّهو «2».

__________________________________________________

(1) الميزان

في تفسير القرآن 19/ 318.

(2) تفسير المراغي 28/ 104.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 169

تفسير سورة التغابن … ص: 169

«سورة التّغابن … ص: 169

[1]»

[1] سورة التغابن، مدنيّة نزلت بعد الجمعة في مصحف الإمام الصادق عليه السّلام وهي آخر المسبّحات «1».

ضوابط المدنيّ ومميّزاته الموضوعيّة

1- كلّ سورة فيها فريضة أوحد، فهي مدنيّة.

2- كلّ سورة فيها ذكر المنافقين، فهي مدنيّة سوي العنكبوت فإنّها مكيّة.

3- كلّ سورة فيها مجادلة أهل الكتاب، فهي مدنيّة.

هذا من ناحية الضوابط، أمّا من ناحية المميّزات الموضوعيّة وخصائص الأسلوب، فيمكن إجمالها فيما يأتي:

1- بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصّلات الإجتماعية، والعلاقات الدوليّة

__________________________________________________

(1) تاريخ القرآن للزنجاني: 57، الإتقان 1/ 44، وتفسير ابن كثير 4/ 399.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 170

في السّلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.

2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصاري ودعوتهم إلي الإسلام وبيان تحريفهم لكتب اللَّه، وتجنيهم علي الحقّ، وإختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم.

3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم علي الدّين.

4- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضع أهدافها ومراميها «1».

قال مجد الدّين الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة بيان تسبيح المخلوقات، والحكمة في تخليق الخلق، والشكاية من القرون الماضية، وإنكار الكفّار البعث والقيامة، وبيان الثواب والعقاب، والإخبار عن عداوة الأهل والأولاد، والأمر بالتقوي حسب الإستطاعة، وتضعيف ثواب المتقين، والخبر عن إطّلاع الحقّ علي علم الغيب في قوله «عالِمُ الْغَيْبِ» الآية «2».

__________________________________________________

(1) مباحث في علوم القرآن: 59.

(2) راجع بصائر ذوي التمييز 1/ 467.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 171

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

[1]»

[1] قال العلّامة الشيخ محمّد جواد البلاغي: الظاهر أنّ البسملة في جميع السور متعلقة بكلمة (أبدأ) للمتكلّم من قول اللَّه جلّ اسمه تنويهاً بجلال اسمه الكريم وبركاته وتعظيماً له

لجلال المسمّي وعظمته جلّ شأنه، وله الأسماء الحسني، كما أمر في القرآن بذكر اسمه وتسبيحه، كما في سورة المائدة والحج والمزمّل والدّهر والأعلي، فيتنظم المقدر في جميع السور وجميع الأحوال بنظام واحد علي نسق واحد، ولا يعتري ما استظهرناه غرابة ولا إشكال، وكيف يعتريه ذلك، وقد نسب اللَّه الإبتداء لذاته المقدّسية في خلقه، كما في قوله جلّ اسمه «وَبَدَأَ خَلْقَ اْلإِنْسانِ مِنْ طينٍ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ» «1»

وقد أقسم جلّ اسمه بمخلوقاته كالشمس والقمر والنفس وغيرها تعظيماً، لأنّها مظاهر قدرته وآيات حكمته «2».

__________________________________________________

(1) سورة السجدة الاية 7 و سورة الانبياء الاية 4

(2) آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1/ 52.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 172

«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلي كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ* هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ* خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ* يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ».

ينبغي التحقيق في هذه الآيات حول ستّة أمور:

الأوّل: إنّ المستفاد منها أنّها في مقام دعوة الخلق إلي الإيمان والتوحيد، وتوبيخهم علي الكفر، ووعظهم حتّي يؤمنوا، ثمّ إنّ التسبيح المسند إلي الموجودات برمتها في السّموات والأرض، هو التسبيح التكويني، فإنّ كلّ موجود بهويّة ذاته وبلسان تكوّنه، يقدّس اللَّه جلّ وعلا، وينزّهه عن الشريك، وعن الشبه، وعن الجهل، وعن العجز، وعن سائر الجهات الإمكانية [1] لما برهن في محلّه- وقد ذكرنا نبذة منه في سورة الجمعة- إنّه لو كان الإله اثنين لما وجد موجود قطّ، ولو كان جاهلًا أو عاجزاً لما صدر منه صادر، كما هو واضح، إلي غير ذلك ممّا يصدقه الوجدان، ويشهد

عليه البرهان.

والحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه.

[1] قال عزّ اسمه تارةً: سبّح للَّه، وتارة: يسبّح للَّه، هي إشارة إلي

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 173

ثمّ إنّ اللّام في «للَّه» للإختصاص ويفهم منه الخلوص، بمعني أنّ التسبيح كائن للَّه وخالص له، بلا عجب ولا رياء ولا سمعة، إذ التسبيح التكويني لا يعقل فيه غير الخلوص.

الثاني: إنّ قوله تعالي «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ» فيه ثلاث احتمالات:

الأوّل: إنّه بيان تسبيح ما في السّموات وما في الأرض [1] بمعني أنّهم يسبّحون بتلك الآية، وهو «لَهُ الْمُلْكُ … ». فما ذكر هو بعينه كلامهم بلسان تكوينهم.

دوام تنزيهه بتسبيح المكلّفين بالقول، وتسبيح الجمادات بالدّلالة، وإنّ وجود ما في السّموات والأرض دالّ علي تنزيه اللَّه وكماله، وإنّ هذه المخلوقات مسخّرة ومنقادة له «1».

[1] قال الفخر الرازي: قال اللَّه تعالي في موضع «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» وفي موضع آخر «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ» فما الحكمة فيه؟ قلنا: الحكمة لا بدّ منها، ولا نعلمها كما هي، لكن نقول ما يخطر بالبال، وهو: إنّ مجموع السّموات والأرض شي ء واحد، وهو عالم مؤلّف من الأجسام الفلكيّة

__________________________________________________

(1) راجع جوامع الجامع: 493، ومجمع البيان 5/ 297 كلاهما للطبرسي، وتفسير المراغي 28/ 118.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 174

والعنصريّة، ثمّ الأرض من هذا المجموع شي ء والباقي منه شي ء آخر، فقوله تعالي «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» بالنسبة إلي هذا الجزء من المجموع وبالنسبة إلي ذلك الجزء منه كذلك، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال قال تعالي في بعض السور كذا، وفي البعض هذا، ليعلم أنّ هذا العالم الجسماني من وجه شي ء واحد، ومن وجه شيئان،

بل أشياء كثيرة والخلق في المجموع غير ما في هذا الجزء، وغير ما في ذلك أيضاً، ولا يلزم من وجود الشي ء في المجموع أن يوجد في كلّ جزء من أجزائه إلّابدليل منفصل، فقوله تعالي «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» علي سبيل المبالغة من جملة ذلك الدليل لما أنّه يدلّ علي تسبيح ما في السّموات وعلي تسبيح ما في الأرض، كذلك بخلاف قوله تعالي «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ» «1».

وقال الشيخ الطّوسي قدّس سرّه: «إنّ المراد بها ما في خلق السّموات والأرض وما فيهما من الأدلة الدّالة علي توحيده وصفاته التي باين بها خلقه، وإنّه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شي ء، وإنّه منزّه عن القبايح

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير 30/ 20.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 175

الثاني: كون الآية وجهاً لاختصاص الملك والحمد له، وقدرته علي أنّ كلّ ما يشاءه يفعل [1].

الثالث من الإحتمالات في الآية: تزكية النفس منه سبحانه وتعالي لنفسه المقدّسة، وهو جلّ وعلا أحقّ بذلك، بمعني أنّه يحمد ويثني علي نفسه بهذه الصّفات الكماليّة.

وصفات النقص، فعبّر عن ذلك بالتسبيح من حيث كان معني التسبيح التنزيه للَّه عمّا لا يليق به» «1».

[1] قال الآلوسي: «تقديم (له الملك) لأنّه كدليل لما بعده» «2»، وقال الطّبرسي قده: (له الملك) منفرداً دون غيره والألف واللّام لإستغراق الجنس، والمعني أنّه المالك لجميع ذلك، والمتصرف فيه كيف يشاء (وله الحمد) علي جميع ذلك، لأنّ خلق ذلك أجمع الغرض فيه للخلق الإحسان إلي خلقه والنفع لهم به، فاستحقّ بذلك الحمد والشكر «وَهُوَ عَلي كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ» يوجد المعدوم ويفني الموجود، ويغيّر الأحوال كما يشاء «3».

__________________________________________________

(1) تفسير التبيان 1/ 680.

(2) روح المعاني 28/ 105.

(3) مجمع البيان 5/ 297.

سلسلة النقد والتحقيق،

ج 3، ص: 176

الثالث: ذكر بعض مقدوراته تعالي، فقال: «هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ» يفيد الحصر، ويستفاد من قوله تعالي «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» التعريض والتوبيخ علي الناس بمعني أنّ الإله الذي يسبّح له ما في السّموات والأرض وقد خلقكم فكيف تكفرون أنتم؟ وكان حقّ ذلك ومقتضي وحدة الخالق أن يكون الناس جميعهم مؤمنين باللَّه، فلماذا صاروا فرقتين؟ مؤمن وكافر؟ [1] وتقديم الكفر علي الإيمان هو المناسب لمقام التوبيخ، والفاء في قوله تعالي: «فَمِنْكُمْ» يفيد

[1] قال الطّبرسي قده: ولا يجوز حمله علي أنّه سبحانه خلقهم مؤمنين وكافرين، لأنّه لم يقل كذلك، بل أضاف الكفر والإيمان إليهم وإلي فعلهم، ولدلالة العقول علي أنّ ذلك يقع علي حسب قصورهم وأفعالهم، ولذلك يصحّ الأمر والنهي، والثواب والعقاب وبعثة الأنبياء «1».

عن حسين بن نعيم عن صحاف قال: سألت الصّادق عليه السّلام عن قوله تعالي «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» قال عليه الصّلاة والسّلام:

«عرف اللَّه عزّ وجل إيمانهم بولايتنا وكفرهم بتركها يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم عليه السّلام» «2».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 10/ 28.

(2) تفسير البرهان 4/ 431.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 177

تأخر الايمان والكفر عن الخلق، لا أنّهما أمران ذاتيان كسائر اللوازم الذاتية التي يطرأ عليها الوجود والخلق [1].

[1] قال النسفي: أي فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له. ويدلّ عليه «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ» أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم، والمعني: هو الّذي تفضّل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين، فما بالكم تفرقتم أمماً فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وقدّم الكفر لأنّه الأغلب عليهم، والأكثر فيهم، وهو ردّ لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين، وقيل: هو الّذي خلقكم فمنكم

كافر بالخلق وهم الدهرية ومنكم مؤمن به «1».

وقال الفخر الرازي، قال أبو إسحاق: خلقكم في بطون أمّهاتكم كفّاراً ومؤمنين، وجاء في بعض التفاسير أن يحيي خلق في بطن أمّه مؤمناً، وفرعون خلق في بطن أمّه كافراً، دلّ عليه قوله تعالي «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «2» «3».

__________________________________________________

(1) تفسير النسفي 4/ 260.

(2) سورة آل عمران، الآية: 39.

(3) التفسير الكبير 30/ 21.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 178

أقول: 1- قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «كلّ مولود يولد علي الفطرة إلّاأبواه يهوّدانه وينصّرانه» «1». قال سيدي الوالد قدّس سرّه: أي يولد علي الفطرة اقتضاء.

2- عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «يعني علي المعرفة بأنّ اللَّه خالقه، وذلك قوله «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» «2»» «3».

3- وعن الصّادق عليه السّلام: «إنّ اللَّه خلق المؤمن من طينة الجنة، وخلق الكافر من طينة النار الحديث».

قال الشيخ الحرّ العاملي قدّس سرّه: والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً قد تجاوزت حدّ التواتر، ولا منافاة فيها للعدل، لأنّ خلق الإنسان من طينة طيّبة أو خبيثة من جملة أسباب الطّاعة والمعصية، ولا ينتهي إلي حدّ الإلجاء، فلا يلزم الجبر، وخلق الطينتين يوجب إمكان صدور

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار 3/ 281، باب الدين الحنيف والفطرة، الرّقم 22، وفيه: كلمة «حتّي» بدل «إلّا».

(2) سورة لقمان، الآية: 25.

(3) الفصول المهمّة 1/ 424.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 179

وقوله تعالي «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ» حيث أتي بالإسم الظاهر، والصفة المشبهة دون أن يقول: وهو بما تعملون بصير، أو نحوه، يفيد أنّ مبدأ البصيرة ذاتي له، فإنّه لو قال (مبصر) لم يكن له صراحة سبق البصيرة لعدم منافاته بضمير الغيبة

مع حصوله بعد الخلق، والصفة المشبهة تدلّ علي أنّ المبدأ ذاتي، بخلاف إسم الفاعل، فإنّه يدلّ علي تلبّس الذات بمبدأ المشتق وإن لم يكن ذاتيّاً ولا ملكة، مضافاً إلي أنّ الإتيان بلفظ الجلالة بمثابة البرهان علي كونه بصيراً، فإنّ معناه هو المستجمع لجميع الكمالات، فلا بدّ وأن يكون بصيراً بالذات، وإن كان يعدّ هو وأمثاله من صفات الفعل [1]، إذ معناه أنّ المبدأ ذاتي وإن وقع علي الفعل بعد وجوده، كما هو المذكور في الحديث. ولعلّ مناسبة ذكر هذه الجملة هو، أنّه لما كان الإيمان والكفر مصدرين لأعمال تناسبهما، فذكر أنّ الأعمال يطّلع عليها الخالق، يوجب النشاط للمؤمن والخوف للكافر. ويحتمل وجود مناسبة أخري. واللَّه العالم.

الأثرين، وإن كان سبب أحدهما أقوي فلا مفسدة … «1».

[1] قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: صفات اللَّه تعالي علي ضربين:

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة 1/ 419- 420.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 180

أحدهما: منسوب إلي الذّات، فيقال صفات الذّات. وثانيهما:

منسوب إلي الأفعال فيقال: صفات الأفعال، والمعني في قولنا صفات الذات: أنّ الذّات مستحقّة لمعناها إستحقاقاً لازماً لا لمعني سواها، ومعني صفات الأفعال: هو أنّها تجب بوجود الفعل ولا تجب قبل وجوده، فصفات الذّات للَّه تعالي هي الوصف له بأنّه حيّ، قادر، عالم، ألا تري أنّه لم يزل مستحقّاً لهذه الصّفات ولا يزال. ووصفنا له تعالي بصفات الأفعال كقولنا خالق، رازق، محي، مميت، مبدي ء، معيد، ألا تري أنّه قبل خلقه الخلق لا يصحّ وصفه بأنّه خالق، وقبل إحيائه الأموات لا يقال: إنّه محي، وكذلك القول فيما عدّدناه.

والفرق بين صفات الأفعال وصفات الذّات: إنّ صفات الذّات لا يصحّ لصاحبها الوصف بأضدادها ولا خلوّه منها، وأوصاف الأفعال يصحّ الوصف لمستحقّها بأضدادها وخروجه عنها، ألا تري أنّه

لا يصحّ وصف اللَّه تعالي بأنّه يموت ولا بأنّه يعجز ولا بأنّه يجهل، ولا يصحّ الوصف له بالخروج عن كونه حيّاً، عالماً، قادراً، ويصحّ الوصف بأنّه غير خالق اليوم، ولا رازق لزيد، ولا محي لميّت بعينه، ولا مبدي ء لشي ء في هذه الحال، ولا معيد له، ويصحّ الوصف له- جلّ وعزّ- بأنّه يرزق ويمنع ويحيي ويميت ويبدي ء ويعيد ويوجد ويعدم، فثبتت العبرة في

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 181

الرابع: قوله تعالي عزّ شأنه «خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ بِالْحَقِّ» إنّه يستفاد من مجموع الآية المبدأ والمعاد، بمعني أنّ كلّ شي ء بين السّموات والأرض، من الإنسان وغيره، خلقهنّ اللَّه وإليه يعود كلّ ذلك، فجملة «خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ» قرينة للمبدأ، وقوله تعالي «وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ» قرينة للمعاد، وإليه المرجع يوم القيامة.

الخامس: يناسب هذه الجملة أعني «خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ …

الآية» لما تقدّم، بأنّه امتنان عليهم بأحسن الصّور، فينبغي أن يشكروه، وأنّ المعاد والمصير إليه، فينبغي أن لا يكفروا، وذكر إبتداءً مادّة جميع المخلوقات وهو السّموات والأرض وخلقها، ثمّ حينما أعطي لكلّ شي ء شكلًا وصورة يمتاز به عن غيره، ومنّ عليهم بأحسن الصّور [1] وهي النفس الناطقة الإنسانية، فإنّها هي صورة

أوصاف الذّات وأوصاف الأفعال، والفرق بينهما ما ذكرناه «1».

[1] قال الآلوسي: «برأكم وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته، وخصّكم بخلاصة خصائص مبدعاته، وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة» «2».

__________________________________________________

(1) تصحيح الإعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5/ 41.

(2) روح المعاني 28/ 106.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 182

الإنسان لغةً وإصطلاحاً.

وبهذا تعرف أن لا موقع للإستشكال- بأنّ بعض الإنسان قبيح المنظر، مشوه الخلقة، وفي غيره من الحيوان ما هو أجمل شكلًا، كما ذكر الإشكال، ووقعوا في حيص وبيص عن جوابه- إذ ليست الصورة هي الشكل العرضي، بل الذاتي

المائز له عن غيره أعني النفس الناطقة التي هي أحسن الصور المائزة بين الأنواع، ولا يفرق في ذلك كونه أجمل شكلًا أو اسوأه.

ثمّ إنّ كلمة «بِالْحَقِّ» في قبال أن يكون باطلًا، علي حذو قوله سبحانه حكاية عن المتفكرين حيث يقولون «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» ثمّ ذكر سبحانه «وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ» فإنّه بالخوف من التبعة في المعاد، يتصدي الإنسان إلي تحصيل الإيمان والخضوع للخالق، فإنّه من التفت إلي أنّ هناك معاداً ودار جزاء وحساب، يدعوه لزوم دفع الضرر بجبلة عقله إلي التحرز والإحتياط، فيتصدي إلي الفحص والنظر في الآيات والدلائل ويهتدي إلي الإيمان [1].

[1] قال العلّامة الطباطبائي: «بهذه الآية تتمّ المقدّمات المنتجة للزوم البعث ورجوع الخلق إليه تعالي، فإنّه تعالي لما كان ملكاً قادراً علي الإطلاق له أن يحكم بما شاء، ويتصرف كيف أراد، وهو منزّه عن كلّ نقص وشين، محمود في أفعاله وكان الناس مختلفين بالكفر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 183

السادس: قوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ» يستفاد من هذه الآية أنّ المعلومات علي ثلاثة أقسام، معلوم أعياني، ومعلوم أفعالي، ومعلوم نفسيّ اخطاري.

أمّا المعلوم الأعياني، فهو الموجودات التي تكون بين السماء والأرض.

وأمّا المعلوم الأفعالي: فهو أفعال البشر من سرّ وعلن.

وأمّا المعلوم النفسي: فهو التخيلات والخواطر التي تكون في النفس والصدر.

فبناءً علي هذا أشار بقوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ» إلي المعني الأوّل وهو الأعياني، أي كلّ شي ء يكون بين السّماء والأرض، فاللَّه تعالي عالم به [1]. «وَيَعْلَمُ ما

والإيمان، وهو بصير بأعمالهم، وكانت الخلقة لغاية من غير لغو وجزاف، كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخري دائمة خالدة، فيعيشوا فيها عيشة باقية علي ما يقتضيه إختلافهم بالكفر والإيمان، وهو الجزاء الذي يسعد به

مؤمنهم ويشقي به كافرهم «1».

[1] دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية علي الاستبعاد، وهي: أنّه كيف يمكن إعادة الموجودات وهي فانية بائدة وحوادث العالم لا تحصي؟

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 434.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 184

تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» بمعني الأفعالي، أي عالم بكلّ ما تفعلون «وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» بمعني الإخطار النفسي، أي عالم بكلّ الخواطر والأفكار التي تكون في الصّدور.

وبالجملة، روابط هذه الآيات كما يستفاد منها أنّها في مقام دعوة الخلق إلي الإيمان ومعرفته تعالي والتوحيد، وتوبيخهم علي الكفر ووعظهم وإرشادهم وإنذارهم حتّي يؤمنوا، فذكر مقدّمة الثّناء للَّه تعالي بتسبيح ما في السّموات …، والتسبيح تكويني ليس إلّاله، وذكر «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ» علي ما ذكرنا من الأوجه الثلاثة.

ثم شرع في التوحيد بقوله: «هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ» بنحو الحصر

والأعمال والصفات لا تعدّ، منها ظاهرة علنية، ومنها باطنة سريّة، ومنها مشهودة، ومنها مغيبة، فأجيب: بأنّ اللَّه يعلم ما في السّماوات والأرض ويعلم ما تسرّون وما تعلنون «1».

وقال الزمخشري: تكرير العلم في معني تكرير الوعيد، وكلّ ما ذكره بعد قوله تعالي «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» كما تري في معني الوعيد علي الكفر، وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته «2».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 343.

(2) تفسير الكشاف 6/ 114.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 185

ووبخهم بالتفرق بالايمان والكفر، مع أنّ وحدة الخالق تقتضي الإجتماع في الإيمان، وتقديم الكفر علي الإيمان هو المناسب لمقام التوبيخ.

ثمّ شرع في ما منّ به عليهم، وذكر أنّ المادة لجميع المخلوقات هو السّموات والأرض، وذكر أنّ المصير ليس بنحو إبتدائي، كأنّه لم يكن ما سبق منه شيئاً مذكوراً، فلا يؤاخذ عليه، ولا يطالب به ولا يجازي عليه، بل اللَّه يعلم ما في السّموات والأرض ويعلم

ما تسرّون من الأعمال الخفيّة وما تعلنون ممّا يعملونه علناً ويعلم ما في الصّدور. وهذه أقسام المعلومات الثلاث كما ذكرنا.

ولعلّ النكتة في الإلتفات من الجملة الفعليّة إلي الإسميّة في قوله تعالي «وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» حيث لم يقل ويعلم ما في الصّدر، علي حذو ما قبله من قوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ»: أنّ الجملة الإسميّة آكد في الدّلالة علي ثبات العلم، مضافاً إلي أنّ هذه الجملة بمثابة التعليل لما تقدّمه، فإن من هو عليم بذات الصّدور لابدّ وأن يعلم الموجودات الخارجية من الأعيان والأفعال، فيناسب أن يكون جملة إسميّة [1].

[1] قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: «إنّ اللَّه تعالي عالم بكلّ ما يكون قبل كونه، وإنّه لا حادث إلّاوقد علمه قبل حدوثه، ولا معلوم وممكن أن

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 186

والنكتة في الإتيان بالإسم الظاهر أعني لفظ الجلالة- مع أنّ ما سبق قد أسند إلي الضمير أعني قوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» [1] وسياقه أن يقال هو عليم بذات الصّدور، بضمير الغيبة- لعلّها من باب إيراد القضية مع الإرشاد إلي برهان ثبوت المحمول لموضوعه، وكأنّه قيل: إنّه عليم بذات الصّدور، لأنّه مستجمع لجميع الصفات، فأبدل عن ذلك قوله تعالي «وَاللَّهُ عَليمٌ» حيث أنّ لفظ الجلالة يدلّ علي ذلك الإستجماع.

يكون معلوماً إلّاوهو عالم بحقيقته، وأنّه سبحانه لا يخفي عليه شي ء في الأرض ولا في السّماء، وبهذا قضت دلائل العقول والكتاب المسطور والأخبار المتواترة عن آل الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، وهو مذهب جميع الإماميّة» «1».

[1] «أي ما يسرّه بعضكم إلي بعض وما يخفيه في صدره عن غيره، والفرق بين الإسرار والإخفاء، إنّ الإخفاء أعمّ لأنّه قد يخفي

شخصه ويخفي المعني في نفسه، والإسرار يكون في المعني دون الشخص «وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي بأسرار الصّدور وبواطنها» «2».

__________________________________________________

(1) أوائل المقالات من مصنّفات الشيخ المفيد: 4/ 54- 55.

(2) تفسير التبيان 2/ 681، ومجمع البيان 5/ 297.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 187

والنكتة في التعبير بالصّفة المشبّهة- حيث قال تعالي عليم، دون عالم- لعلّها من أجل أنّ الصّفة المشبّهة تدلّ علي كون المبدأ ثابتاً مستقرّاً، وهو الأنسب لمقام ذاتية العلم، ولا يفيد ذلك إسم الفاعل، فإنّه يدلّ علي التلبّس بالمبدأ وإن لم يكن ذاتياً ولا ملكة. وقد قدّمنا نظيره.

ثمّ بعد ذلك وعظهم بالإعتبار من نبأ الماضين في كفرهم حتّي يجتنبوا ويأتوا إلي طريق الهدي [1].

«أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَي اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ».

لابدّ من التحقيق في هاتين الآيتين عن أربعة أمور:

الأوّل: قوله تعالي «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ». وجه المناسبة لما قبلها أنّها في مقام الوعظ للعباد، فكما أنّ قوله عزّ شأنه «هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ» …

كان في مقام التوبيخ والتعريض، فكذلك هذه الآية، بمعني: أما آتاكم

[1] قال الطنطاوي: فتح باب للإعتبار بالتاريخ، لا فرق بين قوم نوح وقوم من أمم الإسلام، كأهل الأندلس الذين أذاقتهم أوروبا كأس الذل، وأخرجتهم من ديارهم «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الجواهر 24/ 181.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 188

خبر الذين من قبلكم [1] فكيف كفرتم باللَّه؟ ولقد كان الكفر شيئاً ذا مفسدة عظيمة، بدليل ذوق الوبال وهو كما في مجمع البحرين: عاقبة الأمر، والعذاب الأليم الذي يلحقهم في الآخرة.

[1] قال المراغي: بعد أن بسط سبحانه الأدلّة علي عظيم قدرته وواسع علمه، وأنّه خلق السّموات والأرض،

وأنّه صوّرهم فأحسن صورهم، وأنّه يعلم السّرّ والنّجوي، وحذر المشركين من كفّار مكّة علي تماديهم في الكفر، والجحود بآياته وإنكار رسالة نبيّه محمّد صلّي اللَّه عليه وآله، وبيّن لهم عاقبة ما يحلّ بهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذّبة من قبلهم. فقد كذبوا رسلهم، وتمادوا في عنادهم، وقالوا: أيرسل اللَّه من البشر رسلًا فحلّت بهم نقمة ربّهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأصبحت ديارهم خراباً يباباً، كأن لم يغنوا بالأمس، فهلا يكون ذلك عبرة لهم، فيثوبوا إلي رشدهم، ويرجعوا إلي ربّهم لو كانوا من أرباب النهي … كقوم نوح و هود وصالح وغيرهم من الأمم التي أصرت علي الكفر والعناد، كيف حلّ بهم عقاب ربّهم، وعظيم نقمته، وأرسل عليهم ألواناً من العذاب لا قبل لهم بها، فمن صاعقة من السماء تجتاحهم، إلي رجفة في الأرض تهلكم، إلي صيحة تصم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر، وتمحوهم من صفحة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 189

الثاني: إذا سأل سائل عن قوله تعالي «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» بأنّ «ذاقُوا» فعل ماض وقوله تعالي «وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ» شي ء يأتي ولم يقع بعد، فلا يجوز عطف الشي ء الآتي علي الماضي، لأنّ ذوق الوبال شي ء قد مضي، فلا يحسن العطف هيهنا.

قلنا: ليست هذه الواو واو العاطفة، بل واو الإستيناف بمعني أنّه أخبرناهم بذوقهم وبال أمرهم، ثمّ استأنف وابتدأ بمعني: ليس جزاءهم الوبال فقط، بل ولهم أيضاً عذاب أليم، أي معذّبون في

الوجود، إلي طوفان يعمّ الأرض ويبتلعهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزي كلّ نفس بما كسبت إنّ اللَّه سريع الحساب «1».

قال عليّ عليه السّلام: «وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة؟ أين

الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرّس الذين قتلوا النبيين، وأطفؤوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبّارين؟ أين الذين ساروا بالجيوش وهزموا بالألوف، وعسكروا العساكر، ومدنوا المدائن؟ «2»

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 121.

(2) نهج البلاغه، الخطبة 182.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 190

الآخرة، وقد استفدنا أيضاً من كلمة «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» أنّ لها من البلاغة والإستعارة ما لا يخفي، فكأنّ الوبال من المطعومات فأسند إليه ما يناسبه، أعني الذوق مثل قوله تعالي «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْكَريمُ» «1».

الثالث: قوله تعالي «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ … » بيان علّة الوبال والعذاب، بمعني أنّ هؤلاء كفروا بسبب قولهم «أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا» فقولهم: أبشر يهدوننا سبب كفرهم، فيريد هؤلاء أنّ الهادي لابدّ وأن يكون من غيرهم، أعني من غير جنس البشر، وضمير الجمع في (يهدون) راجع إلي البشر، فإنّه يطلق علي الواحد والجمع، والمراد به هو الرّسل، وأفادت الآية أيضاً أنّ المواخذة تكون بعد البيّنة التي يقيمها الرّسل، حيث قال تعالي «كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» [1] وأفاد أيضاً منشأ كفرهم أنّهم لم يتبعوا نور العقل

[1] عن عليّ بن سويد السائي، قال: سألت العبد الصالح- موسي بن جعفر عليهما السّلام- عن قول اللَّه عز وجل «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» قال: «البينات هم الأئمّة عليهم السّلام» «2».

__________________________________________________

(1) سورة الدخان، الآية: 49.

(2) تفسير البرهان 4/ 341.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 191

والعلم، الدّال بأنّ من يأتي بالبينات لابدّ وإن يكون حقّاً، وإلّا لم يكن يصدر خارق العادة من شخص عادي، وباطل في دعواه، واقتفوا أثر الجهل والسفاهة، وسبب نزول العذاب إستغناء اللَّه عزّ وجل [1].

الرابع: إنّ قوله تعالي «وَاسْتَغْنَي اللَّهُ» أنّ الإستغناء لغة: بمعني طلب الغني، وطلب الغني من الشخص الذي يحتاج

إلي غيره، وهذا المعني من ذات الباري تعالي محال، لعدم احتياجه إلي الناس.

فنقول: الإستغناء بمعني ترتيب أثر تحصيل الغني، بمعني عدم الإعتناء وعدم النظر إليهم بدليل «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ» فأمثال هذا كثير في القرآن من نحو «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» «1»

بمعني ترتيب أثر المجي ء، لأنّ الباري تعالي ليس له جسم، إلي غير ذلك من الآيات.

[1] قال الشيخ الطوسي قدّس سرّه: إنّ اللَّه لم يدعهم إلي عبادته لحاجته إليهم، لأنّ اللَّه تعالي غنيّ عنهم وعن غيرهم، وإنّما دعاهم لما يعود عليهم بالنفع حسب ما يقتضيه حكمه في تدبيرهم واللَّه غنيّ عن جميع خلقه، حميد علي جميع أفعاله لإنّها كلّها إحسان «2».

__________________________________________________

(1) سورة الفجر الاية 22

(2) التبيان في تفسير القرآن 2/ 681.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 192

واستفدنا من الإتيان بلفظ الجلالة والصفة المشبهة: إنّ الوصفين ثابتان له تعالي في الأزل، فإنّ له الغني المطلق أزلًا وأبداً من دون شائبة فقر واحتياج، وله الصفات المحمودة الأزلية والأبدية، كما أنّ ذلك كلّه يرشد إليه لفظ الجلالة، ومعناه هو الذّات المستجمع لجميع الصّفات الكماليّة والجماليّة [1] تبارك وتعالي شأنه، وقد تقدّم نظير ذلك [2].

«زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلي وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ* فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ».

هيهنا تحقيقات: [3]

الأوّل: إنّ قوله «زَعَمَ» بمعني الإعتقاد، ولفظ زَعَمَ مشترك بين الإعتقاد الذي هو مطابق للواقع، والإعتقاد الذي لا يكون مطابقاً

[1] صفات الجلال هي الصفات السلبية، مثل: لم يكن جسماً ولا ظالماً، وصفات الجمال هي الصفات الثبوتية «1».

[2] في سورة الجمعة، فراجع.

[3] قال ابن كثير: هذه هي الآية الثالثة التي أمر اللَّه رسول صلّي اللَّه عليه وآله أن

يقسم بربّه عزّ وجلّ علي وقوع المعاد ووجوده، فالأولي

__________________________________________________

(1) لغتنامه دهخدا الجزء 10، القسم الأوّل «جلال».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 193

للواقع، وهنا عبّر به إشعاراً بأنّه ليس مطابقاً للواقع [1]. وقوله تعالي «الَّذينَ كَفَرُوا» ظاهره أنّه بيان كلّي، ويرتبط بما قبله لأنّه من صغرياته، ويستفاد منه إنّ عمدة منشأ التّولي والإعراض عن الرّسل، هو زعمهم عدم البعث واعتقادهم بعدم الجزاء بعد الممات، وإلّا فلو كانوا يحتملون ذلك لدعاهم دفع الضرر المحتمل إلي الخضوع للرسل والنظر، فيقول اللَّه عزّ وجلّ: «قُلْ بَلي وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ» جي ء بلام القسم ونون التأكيد، لتأكيد الكلام في هذا المقام

في سورة يونس «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزينَ» «1»

، والثانية في سورة سبأ «وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لاتَأْتينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلي وَرَبّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» «2»

الآية، والثالثة هي هذه «زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلي وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ» «3» «4».

[1] قال الرّاغب: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّ القائلون به نحو: زعم الذين كفروا- بل

__________________________________________________

(1) سورة يونس، الآية: 53.

(2) سورة سبأ، الآية: 3.

(3) سورة التغابن، الآية: 7.

(4) تفسير القرآن الكريم 4/ 374.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 194

ردّاً لهم، بمعني: لا بدّ وأن تبعثوا [1].

والثاني: قوله تعالي «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» إشارة إلي أنّه لا يكون لكم البعثة فقط، بل لتنبئونّ بما عملتم وتجزون به [2].

والثالث: قوله تعالي «وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ» أي سهل، بمعني أنّ اللَّه خلق الأشياء التي لم تكن موجودة، فكيف لا يقدر علي إعادتها؟ أي إعادة الشي ء الذي كان موجوداً وبعد ذلك صار معدوماً، بمثل قوله «وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ

عَلَيْهِ» «1»

. فاللَّه الذي خلق الأشياء من العدم أيسر له أن يخلق المعدوم الذي كان،

زعمتم- كنتم تزعمون- زعمتم من دونه «2».

[1] إن سئلنا: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث، وهم قد أنكروا رسالته صلّي اللَّه عليه وآله، قلنا: وإن أنكروا رسالته، لكنّهم كانوا يعتقدون بأنّه صادق أمين، وإن الرائد لا يكذب أهله.

[2] قال العلّامة الطباطبائي: وثمّ في «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» للتراخي بحسب رتبة الكلام، وفي الجملة إشارة إلي غاية البعث وهو الحساب «3».

__________________________________________________

(1)

سورة الرّوم، الآية: 27.

(2) المفردات: 213.

(3) الميزان في تفسير القرآن 19/ 247.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 195

وهذه الكلمة برهان علي ردّ ما زعموه.

ومنها يستفاد أيضاً منشأ زعمهم ذلك، حيث إنّهم يزعمون عدم إمكان البعث، لأنّه قد صارت العظام رميماً، فكيف تحيي وتعود؟

فيجاب عنهم بأنّ اللَّه المستجمع لجميع الصفات. ومنها القدرة الكاملة التامة، يسير لديه ذلك، فكان البعث ممكناً بالنظر إلي قدرة اللَّه تعالي، وهذا المقدار من الإمكان الوقوعي كافٍ في الإرتداع من التولّي والكفر، وفي الإنقياد للرّسل والنظر في البيّنات، فإنّ بالإلتفات إلي إمكانه، ينقدح احتمال الضرر ويوجب الخوف.

مضافاً إلي أنّ العاقل إن التفت إلي مفاد كلمة (اللَّه)، أعني الإستجماع لجميع الصفات الكماليّة الّتي منها الحكمة، يري أنّه لا بدّ من البعث حتّي يعطي لكلّ ذي حقّ حقّه من النعيم، والإحسان للمحسن، والإنتصار للمظلوم، ومن العذاب والمجازاة للمسي ء والظالم بعد أن ينبأ بما عمل حتّي لا يبقي له حجّة، وغير ذلك [1].

[1] قال العلّامة الطباطبائي: إنّ التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: «وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ» للايماء إلي التعليل، والمفاد أنّ ذلك يسير عليه تعالي لأنّه اللَّه، والكلام حجّة برهانيّة لا دعوي مجردة «1».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 347.

سلسلة النقد والتحقيق،

ج 3، ص: 196

والرابع: قوله تعالي «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذي أَنْزَلْنا» فآمنوا، أمر للناس بالإيمان تفريعاً لما سبق [1]. فكأنّ المعني: أنّه لما رأيتم حال الكفّار، ووبال أمرهم، وحصل لكم الإلتفات إلي البعث، فآمنوا باللَّه ورسوله والنور الذي أنزلنا [2].

فإن قلت: ما معني النور هنا؟

[1] قال المراغي: بعد أن أبان لهم أدلّة التّوحيد والنّبوة بما لا مجال معه للإنكار، طالبهم بالإيمان بهما، فقال: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذي أَنْزَلْنا» أي فصدقوا باللَّه ورسوله وكتابه الهادي لكم إلي سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات «1».

[2] إلتفات من الغيبة إلي التكلم مع الغير، ولعلّ النكتة فيه تتميم الحجّة بالسلوك من طريق الشهادة، وهي أقطع للعذر، فكم فرق بين قولنا: والنور الذي أنزل وهو إخبار، وقوله: (والنور الذي أنزلنا) ففيه شهادة منه تعالي علي أنّ القرآن كتاب سماوي، نازل من عنده تعالي، والشهادة آكد من الأخبار المجردة «2».

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 124.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 347.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 197

قلنا: قد ذكر المفسّرون أن النّور بمعني القرآن [1]. وقد ورد في الرواية أنّ النّور هنا أريد به عليّ بن أبي طالب عليه السّلام والأئمة من ولده، ولا منافاة بينهما لأنّ القرآن إمام صامت، والأئمّة عليهم السّلام قرآن ناطق. «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ» [2]

[1] روي السيوطي، إنّ اللَّه سمّي القرآن بخمسة وخمسين إسماً، سمّاه كتاباً ومبيناً في قوله «حم* وَالْكِتابِ الْمُبينِ» «1»

وقرآناً وكريماً في قوله «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَريمٌ» «2»

وكلاماً «حَتَّي يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» «3»

ونوراً «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبينًا» «4»

. وقال: وأمّا النور، فلأنّه يدرك به الغوامض من الحلال والحرام «5».

[2] تارة قال عز من قائل (واللَّه بما تعملون

بصير) وتارة قال (واللَّه بما تعملون خبير)، والمعني في الأوّل إن اللَّه تبارك وتعالي بصير بمن هو قابل ومستعدّ للهداية والإيمان من الكفّار، وفي الثاني أنّه تعالي

__________________________________________________

(1) سورة الدخان، الآية: 1.

(2) سورة الواقعة، الآية: 77.

(3) سورة التوبة، الآية: 6.

(4) سورة النساء، الآية: 174.

(5) الإتقان 1/ 141- 145.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 198

خبير وعليم بالبواطن، هل آمنوا بألسنتهم فقط ليحقنوا به دماءهم أو قوله تعالي: «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا اْلأَنْهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ* وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدينَ فيها وَبِئْسَ الْمَصيرُ».

فهنا تحقيقاتٌ:

الأوّل: إنّ الظاهر تعلّق ظرف الزمان «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ» بالجملة المتّصلة به وهي قوله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ» كما يقال: إنّ الحاكم مطّلع علي ما ارتكبوه من الجرائم يوم يدعوهم إلي المجازاة، أو إنّ المعلّم مطّلع علي ما صنعه الأطفال في الجمعة يوم يأتون إليه في سبتهم، أو إنّ ربّ البيت بصيرٌ وخبير بحال الضيوف يوم يأتون للضيافة، إلي غير ذلك [1]، فيكون المعني: واللَّه بما تعملون ذا خبرة وإطّلاع يوم يجمعكم … وما ذكر أولي من تعلّقه بما سبق من قوله

آمنوا بألسنتهم وقلوبهم؟

[1] قال الطّبرسي قدّس سرّه: البعث والجزاء يكونان في يوم يجمع فيه خلق الأوّلين والآخرين «1». وقال الحوفي: (يوم) ظرف لخبير، وهو عند غير واحد من الأجلّة بمعني مجازيكم، فيتضمّن

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 10/ 31.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 199

تعالي «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ»، فإنّه مع بعده بفواصل، لا يناسبه تمام المناسبة ما يتلوه من قوله «وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا … » فإنّه قد فهم من قوله «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ». وأمّا لو تعلّق

بجملة «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ» فيكون المعني: أنّ اللَّه بما تعملون ذا خبرة وإطّلاع، فيكفّر سيئات من آمن وعمل صالحاً ويدخله الجنّات، ومن كفر وكذّب بالآيات فهو من أصحاب النّار.

وما ذكرناه وإن كان علي خلاف ما نقل في التفاسير، لكنّه أظهر وأبين.

الثاني: تغيير السياق بين الآيتين، فإنّ في الأولي أوتي بالجملة الفعليّة فقال: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ»، وفي

الوعد والعيد «1».

وقال العلّامة الطباطبائي: (يوم) ظرف لقوله السابق «لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» … والمراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم، قال تعالي «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعًا» «2»

، وقد تكرّر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة «3».

__________________________________________________

(1) روح المعاني/ تفسير الآلوسي 28/ 123.

(2) سورة الكهف، الآية: 99.

(3) الميزان في تفسير القرآن 19/ 349.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 200

الثانية أوتي بالجملة الاسميّة فقال: «وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ».

ولعلّ النكتة في ذلك، إنّ الخير مطلقاً ينسب إليه تعالي، والشرّ مطلقاً ينسب إلي المخلوق، كما هو مفاد قوله تعالي «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» «1»

، وكما في الحديث القدسي «أنا أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيئاتك منّي» «2»، فكما أنّ هذا الإسناد بالنسبة إلي الأعمال الحسنة والسيّئة، كذلك يكون بالنسبة إلي الجزاء.

الثالث: إنّ قوله تعالي «يَوْمُ التَّغابُنِ» [1] أي اليوم الّذي يتغابن فيه النّاس، بمعني يعطي الكفّار سهم أهل الجنة من النّار، ويعطي المؤمنون سهم أهل النّار من الجنّة، كأنّهم يتوارثون. بدليل الكتاب والسنّة، أمّا الكتاب، فقوله تعالي «الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيها خالِدُونَ» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة النساء، الآية: 79.

(2) التوحيد: 338، وتفسير الصافي 1/ 473.

(3) سورة المؤمنون، الآية: 11.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 201

[1]

قال محمّد عزّة: التّغابن من الغبن، وهو بيع شي ء بأعلي من

قيمته بالتغيّر، والقصد من الكلمة هو أنّ يوم القيامة هو اليوم الذي يظهر فيه المغبون في الدنيا، الذين اشتروا الضلالة بالهدي والعذاب بالمغفرة فما ربحت تجارتهم «1».

وقال الراغب: يوم التّغابن، يوم القيامة، لظهور الغبن في المبايعة، والمشار إليها بقوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» «2»

وبقوله «إِنَّ اللَّهَ اشْتَري مِنَ الْمُؤْمِنينَ» «3»

الآية وبقوله «الَّذينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَليلًا» «4»

فعلموا أنّهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعاً «5».

وعن حفص بن غياث عن أبي عبداللَّه (الصّادق) عليه السّلام قال:

«يوم التّلاق» يوم تلتقي أهل السماء والأرض، و «يوم التناد، يوم ينادي أهل النار أهل الجنة «أَفيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ»، ويوم

__________________________________________________

(1) التفسير الحديث 9/ 159.

(2) سورة البقرة، الآية: 207.

(3) سورة التوبة، الآية: 111.

(4) سورة آل عمران، الآية: 77.

(5) المفردات في غريب القرآن: 257.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 202

وأمّا السنّة، فما رواه علي بن إبراهيم القمي عن الصّادق عليه السّلام قال: «ما خلق اللَّه خلقاً إلّاجعل له في الجنّة منزلًا وفي النّار منزلًا، فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، نادي منادٍ: يا أهل الجنّة أشرفوا فيشرفون علي أهل النار وترفع لهم منازلهم فيها، ثمّ يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم اللَّه لدخلتموها، يعني النّار، قال: فلو أنّ أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحاً لما صرف عنهم من العذاب، ثمّ ينادي منادٍ، يا أهل النّار: إرفعوا رأسكم فيرفعون رؤوسهم، فينظرون منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات حزناً

لمات أهل النّار حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء ويورث هؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول اللَّه عزّ وجلّ «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيها خالِدُونَ»» «1».

وفي (المجمع) عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله قال: «ما منكم من

التغابن، يوم يغبن أهل الجنّة أهل النّار، ويوم الحشر، يوم يؤتي بالموت فيذبح «2».

__________________________________________________

(1) تفسير القمي 2/ 89.

(2) تفسير البرهان 4/ 342.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 203

أحدٍ إلّاله منزلان، منزلٌ في الجنّة ومنزل في النّار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنّة منزله» «1» [1] إنتهي.

هذا وجه تسمية يوم التغابن، ويفسّره ما بعده وهو قوله تعالي:

«وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ … » والآية «وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا» … [2].

[1] عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله: «ما من عبدٍ يدخل الجنة إلّاأري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكراً، وما من عبدٍ يدخل النار إلّاأري مقعده من الجنة ليزداد حسرة» وهو معني قوله «ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ» «2».

[2] قال الفخر الرازي: في الآية مباحث:

الأوّل: قال «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» بطريق الإضافة، ولم يقل ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة، مع أنّ النور ههنا هو القرآن، والقرآن في كلامه مضاف إليه؟

نقول: الألف واللام في النور بمعني الإضافة، كأنّه قال ورسوله ونوره الذي أنزلناه.

الثاني: بِمَ انتصب الظرف؟

نقول: قال الزجّاج بقوله (لتبعثن)، وفي الكشاف بقوله: (لتنبئون)،

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 7/ 178.

(2) مجمع البحرين كلمة «غَبَنَ» 3/ 292.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 204

قوله تعالي: «ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ إِلّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليمٌ* وَأَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلي رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبينُ* اللَّهُ لاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» [1].

أو بخبير لما فيه من معني الوعيد، كأنّه قيل: واللَّه معاقبكم

يوم يجمعكم، أو بإضمار أذكر.

الثالث: قال تعالي في الإيمان (ومن يؤمن باللَّه) بلفظ المستقبل، وفي الكفر وقال (والذين كفروا) بلفظ الماضي، فنقول: تقدير الكلام:

ومن يؤمن باللَّه من الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا يدخله جنّات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النّار.

الرابع: قال تعالي (ومن يؤمن) بلفظ الواحد و (خالدين فيها) بلفظ الجمع.

نقول: ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعني.

الخامس: ما الحكمة في قوله (وبئس المصير) بعد قوله (خالدين فيها) وذلك بئس المصير، فنقول: ذلك وإن كان في معناه فلا يدلّ عليه بطريق التصريح، فالتصريح ممّا يؤكده «1».

[1] قال العلّامة الطباطبائي: شروع في ما هو الغرض من السورة

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير 30/ 25.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 205

فهنا مباحث:

الأوّل: ربط هذه الآية بما قبلها. والظاهر أنه من حيث أنّه لما ذكر حال الكفّار وسوء حالهم في الآيات السّابقة، في قوله تعالي «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ»، والآية «وَالَّذينَ كَفَرُوا»، ذكر هذه الآية «ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ» [1] أي: فذوقوا الوبال والعذاب الأليم والخلود في النّار، كلّ ذلك فرد من أفراد المصيبة، وبعد ذلك ذكر سبحانه بأنّ الإيمان يهدي الإنسان ويحفظه، والإيمان حائل بين الإنسان وبين المصيبة.

بعد ما مرّ من التمهيد والتوطئة، وهو الندب إلي الإنفاق في سبيل اللَّه والصّبر علي ما يصيبهم من المصائب في خلال المجاهدة في اللَّه سبحانه، وقدم ذكر المصيبة والإشارة إلي الصّبر إليها، ليصفو المقام لما سيندب إليه من الإنفاق وينقطع العذر «1».

[1] قال المراغي: ما أصاب أحداً من خيرات الدنيا ولذّاتها، أو رزاياها وشرورها، فهو بقضاء اللَّه وقدره بحسب ما وضع من السنن في نظم الكون، فعلي المرء أن يعمل ويجد ويسعي لجلب الخير ودفع الضرّ عن نفسه أو عن غيره ما استطاع

إلي ذلك سبيلا».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 351.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 206

الثاني: قوله تعالي «إِلّا بِإِذْنِ اللَّهِ» بمعني أنّ كلّ شي ء يصيب الإنسان هو بإذن اللَّه [1]، والإذن هنا بالمعني التكويني لا التشريعي، فإنّ الإذن علي قسمين: تكويني وتشريعي.

ثمّ هو لا يحزن ولا يغتم لما يصيبه بعد ذلك، لأنّه قد فعل ما هو في طاقته وما هو داخل في مقدوره، وما بعد ذلك فليس له من أمره شي ء.

والخلاصة: إنّ علي المؤمن واجبين: (1) السعي وبذل الجهد في جلب الخير ودفع الضرّ ما استطاع إلي ذلك سبيلًا.

(2) التّوكل علي اللَّه بعد ذلك، إعتقاداً منه إنّ كلّ شي ءٍ يحدث، فإنّما هو بقضائه وقدره، فلا يغتم ولا يحزن لدي حلول الشر، ولا يتمادي في السرور عند مجيي ء الخير «1».

[1] قال محمّد عزّة: قد انطوي في الإيذان معني الإنذار، كما هو المتبادر أيضاً «2».

وقال الشيخ الطّوسي قدّس سرّه: ويجوز أن يكون المراد بالإذن هاهنا العلم، فكأنّه قال: لا يصيبكم مصيبة إلّاواللَّه عالم بها «3».

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 126.

(2) التفسير الحديث 9/ 161.

(3) التبيان في تفسير القرآن 2/ 682.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 207

وقال العلّامة الطباطبائي: الإذن، الإعلام بالرّخصة وعدم المانع ويلازم علم الآذن بما أذن فيه، وليس هو العلم كما قيل، فظهر بما تقدّم:

أوّلًا: أنّ إذنه تعالي في عمل سبب من الأسباب هو التخلية بينه وبين مسببّه برفع الموانع التي تتخلّل بينه وبين مسببّه، فلا تدعه يفعل فيه ما يقتضيه بسببيّته، كالنّار تقتضي إحراق القطن مثلًا لولا الفصل بينهما والرطوبة، فرفع الفصل بينهما والرطوبة من القطن مع العلم بذلك إذن في عمل النار في القطن بما تقتضيه ذاتها أعني الإحراق.

وقد كان إستعمال الإذن في العرف العامّ مختصّاً

بما إذا كان المأذون له من العقلاء لمكان أخذ معني الأعلام في مفهمومه فيقال:

أذنت لفلان أن يفعل كذا ولا يقال: أذنت للنار أن تحرق، ولا أذنت للفرس أن يعدّ، ولكن القران الكريم يستعمله فيما يعمّ العقلاء وغيرهم بالتحليل كقوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» «1»

وقوله:

«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» «2»

، ولا يبعد أن يكون هذا

__________________________________________________

(1) سورة النساء، الآية: 44.

(2) سورة الأعراف، الآية: 58.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 208

التعميم مبنيّاً علي ما يفيده القرآن من سريان العلم والإدراك في

الموجودات كما قدّمناه في تفسير قوله «قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» «1».

وكيف كان، فلا يتمّ عمل من عامل ولا تأثير من مؤثّر إلّاباذن من اللَّه سبحانه، فما كان من الأسباب غير تامّ له موانع لو تحققت منعت من تأثيره، فإذنه تعالي له في أن يؤثّر رفعه الموانع، وما كان منها تامّاً لا مانع له يمنعه، فإذنه له عدم جعله له شيئاً من الموانع، فتأثيره يصاحب الإذن من غير انفكاك.

وثانياً: إنّ المصائب، وهي الحوادث التي تصيب الإنسان فتؤثر فيه آثاراً سيئة مكروهة، إنّما تقع بإذن من اللَّه سبحانه، كما أنّ الحسنات كذلك، لإستيعاب إذنه تعالي صدور كلّ أثر من كلّ مؤثّر.

وثالثاً: إنّ هذا الإذن، إذن تكويني غير الإذن التشريعي الذي هو رفع الحظر عن الفعل، فإصابة المصيبة تصاحب إذناً من اللَّه في وقوعها وإن كانت من الظلم الممنوع، فإنّ كون الظلم ممنوعاً غير مأذون فيه إنّما هو من جهة التشريع دون التكوين، ولذا كانت بعض المصائب غير

__________________________________________________

(1) سورة حم السجدة، الآية: 21.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 209

فالإذن التشريعي: هو أن يأذن بشي ء كأن تقول مثلًا: قد أذنت لك أن تفعل هذا الشي ء.

والإذن التكويني:

هو إيجاد أسباب الفعل وعدم منعها عن مقتضياتها، مع العلم بها وبأحوالها، فمن أرسل دابته مثلًا مع علمه بأنّها تذهب إلي الزرع وتأكله ولم يمنعها ولم يقيدها، بل جعلها مرسلة، ولم يمسك بلجامها، مع تمكنه من ذلك كلّه وعلمه بما يفعل، فكأنّه أذن لها في أكل الزرع إذناً عملياً.

والإذن في المقام من قبيل الثاني، أي قضاء اللَّه وقدره [1].

جائزة الصبر عليها، ولا مأذوناً في تحمّلها، ويجب علي الإنسان أن يقاومها ما استطاع، كالمظالم المتعلقة بالأعراض والنفوس.

ومن هنا يظهر، أنّ المصائب التي ندب إلي الصبر عندها هي التي لم يؤمر المصاب عندها بالذب والإمتناع عن تحملها، كالمصائب العامة الكونية من موت ومرض ممّا لا شأن لإختيار الإنسان فيها. وأمّا ما للإختيار فيها دخل، كالمظالم المتعلقة نوع تعلق بالإختيار، من المظالم المتوجهة إلي الأعراض، فللإنسان أن يتوقاها ما استطاع «1».

[1] الإذن التكويني، هو الإرادة التكوينية، والإذن التشريعي من

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 352.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 210

الثالث: قوله «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» يستفاد منه [1] أنّ بالإيمان يهتدي القلب بهدايته سبحانه وينجو من المصائب، ولا تتوجّه إليه تبعات الضلالة التي هي أعظم المصائب. وهذه الجملة بمنزلة الأمر كأنّه قال: وآمنوا باللَّه حتي يهديكم اللَّه.

سنخ الإرادة التشريعية التي إذا تعلقت بشي ء كان محتماً أن يوجد، لا تتعلق بأفعالنا الإختيارية وإن كانت جميع أفعالنا خاضعة لإرادته التشريعية من حيث ترتّب المسئوليّة عليها، إذن. للَّه إرادتان: الإرادة التكوينية: وهي تلك المشيئة التي إذا تعلقت بواقعة كان من المستحيل تخلفها عنها. والإرادة التشريعية: وهذه تصلنا عن طريق الأنبياء عليهم السّلام الذين هم سفراء اللَّه إلينا، إنّهم يوصلون إرادة اللَّه التشريعية بصورة الأوامر والنواهي، والإرادة التشريعية لا توجد إجباراً في

متعلّقها مطلقاً «1».

[1] قال عليّ بن إبراهيم القمي: أي يصدق اللَّه في قلبه، فإذا بين اللَّه له إختار الهدي ويزيده اللَّه، كما قال «وَالَّذينَ اهْتَدَوْا

__________________________________________________

(1) أنظر في ذلك شرح أصول الكافي للعلّامة الطباطبائي باب المشيئة والإرادة، حديث 4، وشرح أصول الكافي للشيخ صالح المازندراني مع حواشي الشعراني 4/ 361.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 211

زادَهُمْ هُدًي» «1» «2».

وقال الطّبرسي: من يؤمن باللَّه عند النعمة، فيعلم أنّها فضل من اللَّه يهد قلبه للشكر، ومن يؤمن باللَّه عند البلاء، فيعلم أنّه عدل من اللَّه يهد قلبه للصبر، ومن يؤمن باللَّه عند نزول القضاء يهد قلبه للإستسلام والرضا «3».

وقال الطنطاوي: من الحكماء وأرباب البصائر من يعرفون سرّ هذا الإختلاف، وإنّ وجود الحنظل والبطيخ، والبقة والفيل، والحرّ والبرد، والمرّ والحلو، مشابهات تمام المشابهة لما في العقول من كفر وإيمان، وخير وشرّ، وجهل وعلم، وإنّ النظام في الحالين واحد، ولكنّهم لا يريدون أن يذكروا الحقائق التي عرفوها، لأنّ جمهور النوع الإنساني غير كفوء لفهم هذه الحقائق، فلذلك يكتمونها «4».

وقال المراغي: «يَهْدِ قَلْبَهُ» أي يشرح صدره، لازدياد الخير

__________________________________________________

(1) سورة محمّد، الآية: 17.

(2) تفسير القمي 2/ 372.

(3) مجمع البيان 10/ 33.

(4) تفسير الجواهر 24/

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 212

«وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليمٌ» أي عالم بما في القلوب، بمعني يعلم أيّ شخص آمن باللَّه حقيقةً، أو لم يؤمن حقيقةً، وعالم بمقتضيات المصائب وبموانعها ودوافعها [1].

والمضي قدماً في طاعة اللَّه، وأيّ نعمة أعظم من هذه النعمة؟ جدّ في عمل الخير، واستراحة لدي الغم والحزن، وإطمئنان للنفس، ووثوق بفضل اللَّه «1».

وقال العلّامة الطباطبائي: فالإذعان بكونه تعالي هو اللَّه، يستعقب إهتداء النفس إلي هذه الحقائق وإطمئنان القلب وسكونه وعدم اضطرابه وقلقه من جهة تعلقه بالإسباب الظاهرية، وإسناده المصائب والنوائب المرة

إليها دون اللَّه سبحانه، وهذا معني قوله تعالي «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» «2».

[1] قال ابن عباس «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ» يصيبكم من المصيبة وغيرها «عَليمٌ» «3».

وقال الطّبري: واللَّه بكلّ شي ء ذو علم بما كان ويكون وما هو كائن

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 127.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 304.

(3) تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس، الفيروزآبادي: 474.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 213

الرابع: «وَأَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ» هو بمثابة العطف علي الأمر بالإيمان المستفاد من سابقه، فإنّه قال: آمنوا باللَّه وأطيعوا، وقد ذكرنا أنّ جملة «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» يستفاد منها: إنّها خبريّة

من قبل أن يكون «1».

وقال الفيض الكاشاني: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليمٌ» حتّي القلوب وأحوالها «2».

وقال المراغي: واللَّه عليم بالأشياء كلّها، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطّلع علي سرّها ونجواها، فاحذروه وراقبوه في السرّ والعلن، كما جاء في الأثر «اعبد اللَّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» «3».

وقال العلّامة الطباطبائي: تأكيد للإستثناء المتقدّم، ويمكن أن يكون إشارة إلي ما يفيده، قوله: «ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي اْلأَرْضِ وَلا في أَنْفُسِكُمْ إِلّا في كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» «4» «5».

__________________________________________________

(1) جامع البيان 28/ 157.

(2) التفسير الصافي 7/ 210.

(3) تفسير المراغي 28/ 127.

(4) سورة الحديد، الآية: 22.

(5) الميزان في تفسير القرآن 19/ 305.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 214

مستعملة في مقام الإنشاء والحثّ والترغيب، كما يقال: من صلّي كذا فله كذا، ومن تصدّق فله كذا، إلي غير ذلك من الجمل الخبرية المتضمنة للخواص والآثار المستعملة في مقام الترغيب والحثّ علي العمل، فقوله: «وَأَطيعُوا» بمثابة العطف علي الآية السابقة، وحثّ علي الإطاعة، كما إنّ تلك الآية حثّ علي الإيمان.

ويستفاد منها: إنّ مجرد الإيمان لا يكفي، بل لا بدّ

من الإطاعة للَّه وللرّسول، مضافاً إلي أنّ حقيقة الإيمان لا تثبت إلّابها [1].

[1] قال الآلوسي: كرّر الأمر «وَأَطيعُوا» للتأكيد والإيذان بالفرق بين الإطاعتين في الكيفية «1».

قال العلّامة الطباطبائي: ظاهر تكرار «وَأَطيعُوا» دون أن يقال:

أطيعوا اللَّه والرّسول، إختلاف المراد بالإطاعة فالمراد بإطاعة اللَّه تعالي، الإنقياد له فيما شرعه لهم من شرائع الدين، والمراد بإطاعة الرّسول، الإنقياد له وإمتثال ما يأمر به بحسب ولايته للأمّة علي ما جعلها اللَّه له «2».

وقال الشيخ محمود شلتوت: أمرهم بطاعة اللَّه ورسوله فيما بلّغهم الرسول عن ربّه «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»

__________________________________________________

(1) روح المعاني 28/ 125.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 305.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 215

«فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أي أعرضتم عن الحقّ «فَإِنَّما عَلي رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبينُ» [1] بمعني أنّ إعراضكم لا يضرّ النّبي صلّي اللَّه عليه وآله بل ضرره علي أنفسكم، فالنّبي صلّي اللَّه عليه وآله مكلّف بالإبلاغ.

قوله: «الْمُبينِ» بيان للبلاغ، لأنّ البلاغ علي قسمين: مبين وغير مبين، ووظيفة النّبي البلاغ المبين أي الواضح.

الخامس: قوله تعالي «لاإِلهَ إِلّا هُوَ» يستفاد منه علّة إناطة جميع المصائب بإذن اللَّه تعالي، فكأنّه جواب عن سؤال مقدّر: لماذا كان كذلك؟

والطاعة هي العنصر المحقق لفائدة التشريع، وهي العنوان الصّادق علي الإيمان الحقّ، والإيمان الذي يفقد عنوان العمل تعوزه الحجّة والبرهان، وهو بعد عرضة للضعف والزوال، ويقرب بصاحبه إلي الكفر والنفاق، ومن هنا جاء النهي عن الإعراض والتولّي مؤكّداً للأمر بالطاعة «1».

[1] قال العلّامة الطباطبائي: ولما تقدّم من رجوع طاعة الرسول إلي طاعة اللَّه، إلتفت من الغيبة إلي الخطاب في قوله: «رَسُولُنا» وفيه مع ذلك شي ء من شائبة التهديد «2».

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن الكريم: 576.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 305- 306.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 216

والجواب:

إنّ «اللَّهُ لاإِلهَ إِلّا هُوَ» …، لأنّ الألوهية منحصرة في اللَّه، وكلّ شي ء مخلوق منه، وتحت إرادته تبارك وتعالي [1] ولمّا كان الأمر كذلك، فلا مجال لأن يعتمد الإنسان علي قواه وتدابيره.

بل، «وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» «1»

بمعني يفوّضون أمورهم إليه [2].

[1] قال الآلوسي: تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه، أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلّاالتبليغ المبين، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافاً إلي نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصّلاة والسّلام والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم محض البلاغ، ولزيادة تشنيع التولي عنه والحصر في الكلام إضافي «2».

[2] قال الشيخ محمود شلتوت: التّوكل علي اللَّه وحده، والتّوكل أعلي مقامات التوحيد وأنّ من مقتضيات الإيمان بأنّ اللَّه هو المدبر للأمور، التّوكل عليه في كلّ ما يحتاج إليه المؤمن فيما وراء مقدوره،

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران، الآية 122 و 160، وسورة المائدة، الآية 11، وسورة التوبة، الآية 51.

(2) روح المعاني 28/ 125.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 217

وليس من متناول التّوكل ترك الأسباب وتنكب سنن اللَّه في الخلق،

فمن يترك الطعام والشراب باسم التّوكل علي اللَّه في حفظ حياته، فهو جاهل باللَّه، ومن يترك العمل للحصول علي الرزق وما به قوت أولاده باسم التّوكل علي اللَّه، فهو جاهل باللَّه، ومن يترك إعداد العدّة للدفاع عن الأوطان وإعلاء كلمة اللَّه باسم التّوكل علي اللَّه وباسم أنّ اللَّه يدافع عن الذين آمنوا، فهو جاهل باللَّه «1».

وقال العلّامة الطباطبائي: تأكيداً لمعني الجملة السابقة أعني قوله: «اللَّهُ لاإِلهَ إِلّا هُوَ»، توضيحه: أنّ التوكيل إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في إرادة أموره، ولازم ذلك قيام إرادته مقام إرادة موكّله، وفعله مقام فعله فينطبق

بوجه علي الإطاعة، فإنّ المطيع يجعل إرادته وعمله تبعاً لإرادة المطاع، فتقوم إرادة المطاع مقام إرادته ويعود عمله متعلّقاً لإرادة المطاع، صادراً منها إعتباراً، فترجع الإطاعة توكيلًا بوجه، كما أنّ التوكيل إطاعة بوجه، فإطاعة العبد لربّه إتباع إرادته لإرادة ربّه والإتيان بالفعل علي هذا النمط، وبعبارة أخري إيثار إرادته وما يتعلّق بها من العمل علي إرادة نفسه وما يتعلّق بها من العمل، فطاعته تعالي فيما شرّع لعباده وما يتعلّق بها نوع تعلّق من التوكّل عليه، وطاعته واجبة لمن عرفه وآمن به،

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن الكريم: 572.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 218

قوله تعالي: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ* إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيمٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَليمٌ* عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزيزُ الْحَكيمُ».

يستفاد من هذه الآيات أمور:

الأوّل: قوله تعالي «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا … » بيان بعض المصائب وبيان منشأ المصيبة، بمعني أنّه تعالي يذكر الإنسان بأنّ بعض الأزواج والأولاد عدوّ للإنسان، فهذا من المصائب، ولفظ (من) هنا للتبعيض، بمعني أنّهم يشغلونكم ويمنعونكم عن طاعة اللَّه عزّ وجلّ، فاحذروا منهم [1].

فعلي اللَّه فليتوكّل المؤمنون، وإيّاه فليطيعوا، وأمّا من لم يعرفه ولم يؤمن، فلا تتحقق منه طاعة، وقد بان بما تقدّم، أنّ الإيمان والعمل الصالح نوع من التّوكّل علي اللَّه تعالي «1».

[1] عن ابن عباس، قالوا لهم: صبرنا علي إسلامكم فلا صبر لنا

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 355.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 219

علي فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة

فقال اللَّه تعالي (فاحذروهم) أي أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة. وعن عطاء بن يسار نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وكان ذا أهل وولد، فإذا أراد أن يغزو بكوا عليه ورقّقوه، وقالوا إلي من تدعنا، فيرق عليهم فيقيم «1».

وعن ابن عباس: كان الرجل يسلم فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا: ننشدك اللَّه أن تذهب فتدع أهلك وعشيرتك، وتصير إلي المدينة بلا أهل ولا مال، فمنهم من يرق لهم ويقيم ولا يهاجر، فأنزل اللَّه هذه الآية.

وعنه: وهؤلاء الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس فقد فقهوا في الدين، همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم، فأنزل اللَّه تعالي «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ».

وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: كان الرجل يسلم فيلومه أهله وبنوه، فنزلت هذه الآية «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الخازن 4/ 276.

(2) أسباب النزول للنيسابوري: 288.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 220

وذكر أنّ الآية لمّا نزلت علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله كان الناس يهاجرون إليه من البلاد، وكان بعضهم يريد أن يهاجر، يمنعهم الأهل والأولاد، ويقولون له، إلي أين تذهب؟ أسكن في بلدك وبيتك، ولا ترحل من عندنا، وهم لا يعتنون إلي منعهم، بل كانوا يهاجرون ويخلصون أنفسهم من أيديهم، لأنّهم كانوا يرون المهاجرين إلي النّبي صلّي اللَّه عليه وآله صاروا فقهاء وعلماء، وهؤلاء لا يزالون في غمرات الجهل وكان المهاجرون يغضبون علي الأهل والأولاد ويمنعونهم المعيشة، ولكنّ اللَّه تعالي يأمرهم بالعفو والصفح والغفران. «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ» أي إذا غفرتم وعفوتم فاللَّه أيضاً يغفر لكم ويرحمكم.

إن قلت: لماذا جيي ء هنا بثلاثة ألفاظ: العفو، والصفح، والغفران؟

قلنا: لأنّ مراتب العفو ثلاثة:

فإمّا أن يكون بالظّاهر، أعني اللسان والجوارح، فهذا يسمّي عفواً.

وإمّا العفو بالظاهر والقلب، ويسمّي صفحاً.

وإمّا العفو بمعني محو الخطيئة عن نظر الإنسان مثل: التائب من الذنب كمن لا ذنب له «1»، وهذا يسمّي غفراناً.

__________________________________________________

(1) الكافي 2/ 435، باب التوبة، الرّقم 10.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 221

وبعبارة أخري: تارةً مجرّد عدم المجازاة فهو العفو، وأخري الإغماض عنه وهو الصّفح، وثالثة محو ذنبه بالكلية وهو الغفران [1].

الثاني: قوله تعالي «إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»، ربط الآية بما قبلها: أنّه لما ذكر سبحانه الأزواج والأولاد وعداوتهم، ذكر بعد ذلك أنّ الأموال والأولاد فتنة، وقدّمت الأموال علي الأولاد، لأنّها أعظم فتنة، ويمتحن الإنسان بهم [2].

[1] قال الرّاغب: عفوت عنه، قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه، فالمفعول في الحقيقة متروك، والصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو …

وصفحت عنه أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه، أو لقيت صفحته متجافياً عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبتت فيها ذنبه من الكتاب.

والغفران والمغفرة من اللَّه: هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب «1».

[2] أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه عن بريدة قال: كان النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من المنبر

__________________________________________________

(1) المفردات: 338 و 283 و 363.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 222

فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثمّ صعد المنبر فقال:

صدق اللَّه «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»، إنّي لما نظرت إلي هذين الغلامين يمشيان ويعثران، لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما «1».

وفي رواية ابن مردويه عن عبداللَّه بن عمر، أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بينما هو يخطب

الناس علي المنبر، خرج حسين بن علي علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فوطي ء في ثوب كان عليه فسقط فبكي، فنزل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عن المنبر فلمّا رآه الناس سعوا إلي حسين يتعاطونه، ويعطيه بعضهم بعضاً حتي وقع في يد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فقال: «قاتل اللَّه الشيطان، إنّ الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري» «2».

قال العلّامة الطباطبائي: «الرواية لا تخلو من شي ء، وأنّي تنال الفتنة من النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وهو سيّد الأنبياء المخلصين، معصوم مؤيد بروح القدس» «3» والشيطان لا يمكنه إغراؤهم فكيف به؟

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 5/ 354، وسنن الترمذي 5/ 324، وسنن النسائي 3/ 192.

(2) تفسير الآلوسي 28/ 127.

(3) الميزان في تفسير القرآن 19/ 310.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 223

فإن قلت: لماذا كانت الآية السابقة، الأزواج والأولاد، وهنا الأموال والأولاد؟

قلنا: لعلّه لأجل أنّ غالب ابتلاء الإنسان ومصائبه من المال والولد، وأكثر علاقة الإنسان بهما، ومراقبته غالباً منهما أكثر، كقوله تعالي: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لاتُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» «1».

ثم إنّه لما كانت علاقة الإنسان بالمال والولد توجب وقوعه في المكاره، وكانت هي فتنة، وإمتحاناً، فمن التفت إلي ذلك وراقب اللَّه سبحانه في أموره نال أجراً عظيماً «وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيمٌ».

ويستفاد من الآية: إنّ اللَّه سبحانه أحقّ بأن يتعلّق القلب به ويحبّه، فإنّ الأجر والفائدة من حضرته سبحانه عظيم، بخلاف ما يكون من قبل المال والولد، فإنّهما حقيران فيذهبان جفاء [1].

وأنّه الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

[1] عن ابن مالك الأشعري: «إنّ رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وآله قال: ليس عدوّك الذي إن قتلته كان فوزاً لك، وإن قتلك دخلت الجنة،

__________________________________________________

(1) سورة المنافقون، الآية: 9.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 224

الثالث: قوله تعالي «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ … ».

يحتمل أن يكون المعني: أنّه بعد أن كان المال والولد فتنة، وانحصر الأجر العظيم فيما عنداللَّه، فلا بدّ أن لا يتّقي الإنسان ولده، بل يتّقي ربّه، كما في قوله تعالي «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ … » «1»

[1].

ويسمع منه ويطيعه، وأن لا يبخل بماله، بل ينفقه إنفاقاً، هو خير لنفسه، وعلي هذا يكون (خيراً) قيداً لكلمة (وأنفقوا) كما ذكر في التفاسير، وارتباط الجملة بما تقدّم بنحو اللف والنشر المشوّش.

ويحتمل أن يكون المعني: بعد أن كان الأجر العظيم عنداللَّه،

ولكن الذي خرج من صلبك، ثمّ اعدي عدو لك مالك الذي ملكت يمينك» «2».

[1] وقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لابن مسعود: يابن مسعود، لا تحملنك الشفقة علي أهلك وولدك علي الدخول في المعاصي والحرام، فإنّ اللَّه تعالي يقول: «يَوْمَ لايَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلّا مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ» «3» «4».

__________________________________________________

(1)

سورة آل عمران، الآية: 102.

(2) تفسير القرآن العظيم 4/ 376.

(3) سورة الشعراء، الآية: 88- 89.

(4) بحار الأنوار 74/ 108.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 225

فلا بدّ أن يتّقي الإنسان ربّه فيسمع ويطيع وينفق، وتكون هذه الأمور الثلاثة بياناً للتقوي، ويكون (خيراً لأنفسكم) قيداً للكلّ (ومن يوق شحّ نفسه) مرتبط بالإنفاق، والشّح ظاهره بمعني البخل مع الحرص، أي بخل نفسه؛ وفي مجمع البيان: قال الصادق عليه السّلام «من أدي الزكاة فقد وقي شحّ نفسه» «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي الفائزون في الدّارين [1].

الرابع: قوله تعالي «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ

[1] قال الشيخ الطوسي: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ»

أي من منع ووقي شحّ نفسه، والشّح منع الواجب في الشّرع. وقيل: الشّح منع النفع علي مخالفة العقل لمشقة البذل، ومثله البخل، يقال: شح يشح فهو شحيح وشحاح.

وقال ابن مسعود: من الشح أن تعمد إلي مال غيرك فتأكله.

وقوله: «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» قال: معناه إنّ من وقي شحّ نفسه، وفعل ما أوجبه اللَّه عليه، فهو من جملة المنجحين الفائزين بثواب اللَّه «1».

وقال عليّ بن إبراهيم القمي: يوق الشّح إذا اختار النفقة في طاعة اللَّه، قال: وحدثني أبي، عن الفضل بن أبي قره قال: رأيت أبا عبداللَّه عليه السّلام يطوف من أوّل الليل إلي الصّباح وهو يقول: اللّهمّ قني شحّ نفسي، فقلت جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء، قال: وأيّ

__________________________________________________

(1) التبيان في تفسير القرآن 2/ 683.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 226

وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَليمٌ» هنا نذكر جهات:

الأولي: التعبير عن الإنفاق بالإقراض للَّه، إستعارة لما بينهما من الشبه، فإنّ القرض، هو إعطاء المال بضمان عوضه [1] والإنفاق له عوض قد ضمنه اللَّه تعالي.

الثانية: قد وصف القرض بالحسن، فإنّ القرض أعني الإنفاق السي ء الذي يخالطه المنّ والأذي، أو تشوبه السّمعة والرياء، أو غير ذلك ليس له هذا الأثر.

الثالثة: المضاعفة هاهنا قد أشير إليها في مكان آخر بقوله سبحانه «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» «1»

وورد في الحديث مفصّلًا، وذكر القرض تلطف به في الإستدعاء.

شي ء أشدّ من شحّ النفس؟ إنّ اللَّه يقول: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2».

[1] قال النّبي صلّي اللَّه عليه وآله: «من احتاج إليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه فلم يفعل، حرّم اللَّه عليه ريح الجنة» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة الأنعام، الآية 160.

(2) تفسير القمي 2/ 372.

(3) بحار الأنوار 73/ 335.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3،

ص: 227

الرابعة: قد ذكر للقرض أعني الإنفاق خاصيتان [1] إحداهما:

المضاعفة، والأخري: المغفرة. يشهد عليهما أنّه تعالي (شكور حليم) فوصف (الشكور) للجزاء بالمضاعفة (والحليم) للمغفرة [2].

الخامس: إنّه وصف سبحانه نفسه، بأنّه عالم الغيب والشهادة، ما غاب وما شوهد، فإنّ جميع موجودات عالم الكون، ينتهي أمرها إليه سبحانه، فلا يخفي عليه شي ء، سواء كان ممّا مضي أو ممّا يأتي، وسواء كان مكشوفاً لغيره أو مستوراً عنه. ويرتبط هذا التوصيف بمقام الإنفاق، فإنّ الإنفاق تارةً يكون علناً وأخري سرّاً، فهو علي كلا قسميه يعلمه اللَّه ويجازي عليه.

السادس: إنّه وصف نفسه سبحانه، بأنّه (العزيز الحكيم) فإنّ له

[1] قال العلّامة الطباطبائي: «المراد بإقراض اللَّه، الإنفاق في سبيله. سمّاه اللَّه إقراضاً للَّه وسمّي المال المنفق قرضاً حسناً حثاً وترغيباً لهم فيه» «1».

[2] قال الطّبرسي: ««حَليمٌ» لا يعاجل العباد بالعقوبة وهذا غاية الكرم» «2».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 309.

(2) مجمع البيان 10/ 35.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 228

العزّة المطلقة التامّة حيث أنّه لا كفو له، ولا ندّ له، ولا مثيل له، وجميع الخيرات والمنافع تصدّر منه، وهو القاضي لما تحتاج إليه الممكنات في جميع حالاتها، وذلك كلّه مناط العزّة وله الحكمة البالغة الكاملة، يدبّر شؤون الكلّ ويديرها، ويضع كلّ شي ء موضعه، ويعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، ويهيي ء الأسباب المناسبة لمسبباتها، كلّ ذلك بكمال الإتقان والنّظم الدّقيق. ويرتبط الوصفان أيضاً بمقام الإنفاق حيث إنّ ترتيب الآثار النّافعة، والخواصّ الخيرية علي الإنفاق زائداً علي الأمر به، تتميماً لدعوة الأمر، حيث إنّ غالب النّفوس البشرية إذا عرفت خاصيّة الشي ء اشتاقت إليه وعملت به، بخلاف مالو كان هناك مجرّد الأمر به، فربما لم ينبعث، وربما تواني في العمل به، ولقد ذكر الشيخ الرئيس: إنّ المثوبات

الموعودة في الأوامر الشرعية، هي بمقتضي الحكمة تتميماً لدعوتهما وتكميلًا لباعثيتها في غالب النفوس البشرية [1]، هذا وآخر دعوانا، أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

[1] قال الشيخ الرئيس ابن سينا: المثوبات الموعودة في الأوامر الشرعية تتميم لداعويتها وتكميل لباعثيتها «1».

قال المراغي: «خلاصة ما حوته السورة.

__________________________________________________

(1) الشفاء: 182.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 229

(1) صفات اللَّه الحسني.

(2) إنذار المشركين بذكر ما حلّ بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.

(3) إنكار المشركين للبعث.

(4) بيان أن ما يحدث في الكون، فهو بأمر اللَّه وتقديره.

(5) تسلية الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، بأنّه لا يضرّه إصرارهم علي الكفر.

(6) إنّ من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.

(7) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.

(8) الحثّ علي التّقوي والإنفاق في سبيل اللَّه «1».

هذا آخر ما كتبناه في التعليق علي سورتي الجمعة والتغابن، في يوم ولادة سيّد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصّلاة والسّلام سنة 1401 هجرية في مكتبة سيدي الوالد رضوان اللَّه عليه وقدّس سرّه، في مشهد إمامنا الرّضا عليه آلاف التّحية والثّناء.

السيد محمّد عليّ الحسينيّ الميلاني

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 132.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 230

الكتاب القادم: … ص: 230

الهداية

في كون الشهادة بالولاية في الأذان والإقامة

جزءٌ كسائر الأجزاء

من بحوث

آية اللَّه العظمي الشيخ عبدالنبي العراقي

تقرير

العلّامة الشيخ محمّد حسين آل طاهر الخميني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.